الساعة تقترب من التاسعة والربع ، أنها وحدها بالغرفة ، جالسة مع فرحتها ، تداعبها ، أنها سعادة غريبة تجتاحها ، تسيطر على كيانها . عيناها تشع من بريق الفرحة العارمة وتلك السعادة التي تغمرها ، ليس هناك كلمات أو كلمة تعبر عما بداخلها ، فقط أنها فرحة .
أمعنت في الرسالة كثيرا وقرأتها عدة مرات كي تستوعب كل الكلمات والحروف والمعاني . تلك الرسالة كانت لغتها مختلفة ، تختلف عن كل الرسائل ، لها طعم آخر ، لها كيان ومذاق يختلف في كل التعابير .
أخيرا قالها ، بعد عناء ، بعد فراق وعذاب ودموع وسهر ، أنها تذكر موقع ذلك السطر الذي أعادة قراء ته مران عديدة ، آه ، قال سأعود إلى أهلي ، إلى أمي وأبي وأخوتي ، إلى كل الناس ، كل الناس .
آه ،
أنه قرر العودة ، العودة .
لم تشعر بمطر الدموع وهي تتساقط من عينيها ، لقد بللت زجاج نظارتها ثم وجهها وكامل تفاصيل وجهها ، أنها تبكي ، تبكي بصمت ، لقد أعتادت البكاء بصمت وسكينة .
أخيرا شعرت أنها تكاد تنفجر ، صوتها يريد الخروج من أعماقها ، ضغطت باسنانها على شفتيها كي تخنق بكاءها ، تخنق همسها .
حتى البكاء لا تستطيع أن تبوح به ، أو تعبر عنه بأي شكل ، ماذا ستقول لو سمع أحد صوتها وهي تبكي ؟
هل تقول أنه سيأتي ، من هذا الذي سيأتي ؟
لكن هو لن يعود إليها ، أنه يعود إلى أمه وأبيه ، إلى أخوته ، إلى كل العالم ماعدا هي ، لم يقل لها أنني سأعود إليك حبيبتي ، لم ترد كلمة واحدة عن العودة إليها ، لماذا كل هذا الكبرياء ؟
أنها تشعر بالغيرة ، بنار تستعر بداخلها ، أنه سيرى كل الناس إلا هي لن يراها
هي لا .
لقد افترقت قبل أن تلقاه ، افترقت قبل أن تحظى بالقرب منه ، كل ما بينهما صور صامتة ، ساكنة .
تتسائل في صمت :
-- ماذا تعني له ، من هي بالنسبة إليه ، هل هي كل تلك الاشياء ، وماهي تلك الأشياء ؟
لم تزل تبكي ، الآن هي ترى الجالسين بقربه ، تحسدهم ، كيف هم الآن بقربه وهي بعيدة ، بعيدة .
هل يذكرها ؟
الدموع بللت كتبها واقلامها ومناديلها ، هناك ألم يعتصرها ، ينهشها .
أنها تحترق بنار الفراق ، الفراق الذي لم يسبقه لقاء ، ونار البعد الذي لم يسبقه قرب .
آه ،
قلبها كان مليئا بالحب ، بالجمال والحنان ، الآن هو ينزف ويتلاشى ويضمر ، لقد انتهى ما بداخله .
لم يذكرها
لم يعرفها
أضاع تفاصيلها في وضح النهار .
أين هي تلك المشاعر ، وتلك البراءة التي كان يحملها في كيانه ؟
أين كل ذاك الحب ؟
أنها تتضور ألما وعطشا ستحتمل الكثير من أجله ، ستحمل كل العذابات ما بين ضلوعها الهشة وستغطيها بشيء من حنانها .
أنها تحبه .