منصور المهوس
من أكثر القضايا إشكالية في النقد الأدبي هي حرية المبدع ..ما حدودها ؟ كيف تتموضع ؟
هناك من يفهم هذه الحرية ويمارسها إبداعا بأن من لوازمها اختراق للثابت من اعتقاد وخلق ونظم اجتماعية .. ومن يؤيدون هذا الفهم لا يقرون بعلاقة الأخلاق بالإبداع ، فهو في نظرهم لا يتضمن أي بعدٍ أخلاقي ، بل هو إبداع صرف ...ويدفعهم هذا التصور للحرية إلى اختراق المحظور الشرعي والأخلاقي ، ليخوضوا في حمأة البذاءة والسفول بدعوى الصدق والتصوير الواقعي لسلبيات المجتمع !!!
وهم بذلك يرون أن كل من يدعو إلى احترام الذوق والثوابت فإنما يكرس مفهوم(التابو) الذي لا يجوز اختراقه ، والمقصود به (التابو الثلاثي:الدين الجنس السياسة) دون النظر في كيفية تناول هذه القضايا الثلاث ...
وهذا التصور لمفهوم حرية المبدع يكشف عن مفاهيم مغلوطة ؛ لأن الرؤية الواقعية الصادقة والكتابة الموضوعية والتقنية الفنية تؤدي بالضرورة إلى تقديم رواية جيدة فنياً وأخلاقيا في آن واحد ؛ لأن المضمون الأخلاقي لا يتعارض مع الشكل النموذجي للنوع الأدبي .
لذا فإن (معظم كتاب الرواية اليوم يشعرون باتصال وثيق بين الفن والأخلاق..)(بلاغة الفن القصصي : وين بوث . ص 437).
والحرية هي التزام بمبادئها ، والتي من أهمها احترام الآخر ، وعدم جرح مشاعره بكلام بذئ وسافل والهجوم على معتقداته وتسفيهها، وهذا الالتزام ليس بدعا في كثير من الآداب العالمية ، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون(بنظرية الفن للفن) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن ، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار تصور معين ، ويلتزم شكلاً وموضوعا بقيم خاصة ، يحرص عليها كثيرا ويدافع عنها ..
فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب ، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية ، هم أنفسهم يلتزمون بقواعد ومبادئ ، شعروا أم لم يشعروا واعترفوا به أم لم يعترفوا ...
والرواية – كأهم عمل إبداعي سردي – تتمتع بمساحة كبيرة يتحرك فيها المبدع دون الحاجة إلى اختراق الثابت ، والدخول في مزالق غير حميدة ، فهي ذات وظيفة أساسية اجتماعية وتاريخية - وقبل - فنية لدى جميع الشعوب في الماضي والحاضر بل والمستقبل لأنها (واجهة الشعوب ومرآتها ، وهي المكتوب الذي يصور أدق سماتها وخصائصها ، وهي أيضا تلك اللوحة الناطقة التي يرى فيها الإنسان رسم انعتاق الذات من أحاديثها ، وتحررها من فرديتها ، وانعتاقها من سجن رؤيتها الضيقة ، ودخولها إلى رحاب تعديتها ومطلقها ، وإذا كان الإنسان يرى في الرواية هذا فلأنها مثال حي على انفتاح (الأنا) فناً ، ودخولها إبداعا في حوار مع (الأنت) الذي يتمثل في الآخر .. الآخر البعيد .. القريب .. الحاضر .. الغائب .. المتزامن تاريخياً .. الآني حضورا .. والآتي مستقبلا ، وبكل اللغات ، وفي كل الأوطان (مدخل إلى التحليل البنيوي)، (رولان بارت : ص : 6).
إذا حرية الإبداع تفتح أمام المبدع المساحات البيضاء ليبدع ويُمْتع ، وفقا لقواعد مفتوحة ، تمنحه الانطلاق ، حرية داخلية ذاتية حيث التصوير المحلق لما يعتمل في أعماقه ، وأعماق شخصياته ، وحرية خارجية مفتوحة لا تتعدى على الثوابت والأخلاق ، من أجل أن يتفاعل القارئ مع إبداعه ، ويتواصل مع أطروحاته ، ويستمتع بقيمه الفنية والجمالية . انتهى .