الكنز ..
قصة قصيرة .. من المجموعة القصصية
( ليلة صيف ) .. د. يوسف إدريس
عبد العال مخبر بوليس طويل أسمر ,
و على ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح,
و ذيلها مشقوق , و على عينها نقطة.
عبد العال مخبر , و مع هذا فله عيلة و زوجة أحياناً تناكفه
و أحياناً ترضى عنه , و احياناً يحلف عليها يمين الطلاق ,
و نادرا ما يقع اليمين.
و لعبد العال ماهية عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله
و ما لم ينله من علاوات .
وعبد العال سعيد جدا بحكاية المخبر ,
إذا ركب الأوتوبيس و جاء الكمسارى قال :
" بوليس" , و أحس بأهميته و هو يقول بوليس ,
و الناس يرمقونه و يضربون له بعيونهم السلام .
و عبد العال مثل كل الناس يحلم بالمستقبل ,
و هو لا يحلم حلما عاديا مثل أن يصبح ضابطا
أو مساعد حكمدار .. هو فى الحقيقة يحلم أن يكون وزيرا للداخلية . يا سلام ! ..
يصحو الواحد و يلاقى نفسه وزيراً له عربة
و له حاجب و يقف على باب منزله عسكرى على الأقل بشريطين . بسيطة !
و ليست على الله ببعيدة ,
فالذى خلق الأرض و السماوات من العدم ,
الا يمكنه أن يخلق من العسكرى وزيراً؟
ثم لماذا لا يخلق منه وزيراً و هو دوناً عن رفاقه
يجيد القراءة و الكتابة ,ويرطن احياناً بألفاظ إنجليزية ,
و يلتهم الصحف و يعرف موريا ,
ويستطيع أن ينطق اسمهمرشولد صحيحاً .
وعبد العال من مدة كان معه تحقيق و سين و جيم,
فقد اشترك مرة فى ضبط واقعة و استلم هو المضبوطات,
ووقع على ذلك , وبعد أيام جردت الأحراز
فوجدوا حرزاً ناقصاً, و جاءوا بعبد العال و سألوه و أنكر,
و ألحوا فى السؤال و أغلظوا و تلجلج ,
و شك فيه الضابط و هدده بالتفتيش ,
و رأى عبد العال من عينيه أنه ينوى حقاً تفتيشه ,
و حينئذٍ مدّ يده فى جيبه و أخرج منها الحرز المفقود
و كان الحرز هو الدليل المادى فى القضية ,
فقد كان شيكاً مزوراً .. شيكاً بمائة ألف جنيه أُتقِن تزويره .
و استغرب الضابط ..
و فتح محضراً و راح يسأل , و توقف عند السين التى تقول :
لماذا احتفظت بالشيك المزور معك ؟
و لم يستطع عبد العال أن يدلى بسبب واضح ..
همهم و غمغم و قال كلاماً فارغاً كثيراً لم يقنع الضابط,
و لم يقتنع به هو.
و فى آخر النهار عاد عبد العال من القسم
منهوكاً محطّم القوى , عاد و قد خُصِم من مرتبه نصفه ,
و نُقل من المباحث و أُنِّر بالفصل .
عاد و هو حزينٌ ساخط
و مع ذلك كانت فى اعماقه طراوة رضا و سعادة ..
فلا أحد قد فطن إلى أنه قد احتفظ بالشيك المزور
ليستخرج له صورة فوتوغرافية طبق الأصل ,
صورة كلفته كثيراً و دفع فيها خمسة عشر قرشاً .
و مضى اليوم و مضت وراءه أيام ,
و ذهب حزن عبد العال و سخطه ,
و لكن بقيت صورة الشيك المزور.
و للآن لا تزال أسعد لحظات عبد العال
هى تلك التى يهرب فيها من زحمة الناس و يختلى بنفسه,
و يطمئن إلى أن أحداً لا يلحظه أو يراه ,
ثم يخرج حافظة نقوده بعناية ,
و يستخرج من جيب مخصوص فيها صورة الشيك ,
و يحس بالرعد فى أذنيه و التنميل فى اطرافه
و هو يرى شعار البنك و الحروف المطبوعة ,
ثم و هو يقرا الجملة الخالدة و يملس عليها بأصابعه :
ادفعوا لحامل هذا مبلغ مائة ألف جنيه مصرى لا غير .
و يستمر يحدق فى الشيك حتى تهجع الزوابع
التى فى جوفه , ثم يطويه بعناية و يعيده إلى جيبه الخاص
فى المحفظة و يتنهد ,
و كأنما قد انتهى من اعترافٍ أو صلاة ,
ثم يعود هو فى بطء إلى الناس و زحمتهم ,
يعود كما كان عسكرياً طويلاً و أسمر ,
و على ظهر يده اليمنى سمكةفمها مفتوح ,
و ذيلها مشقوق , و على عينها نقطة .
***