الحنـين إلــى الـدفء
...في أحدى ليالي الشتاء المطيرة قارصة البرودة ..أخذ يتدثر بمعطفه الصوفي عسى أن يتلمس فيه بعضاً من الدفء..!!
و يجري مسرعاً وسط الأوحال .. يسابق الريح.. ليصل إلى سكنه.. عساه يشعر بالأمان بعد أن يغلق الباب ..ويكف صفير الرياح خلفه.. نفض قطرات المياه التي تساقطت من شعره على وجهه وتلك الغشاوة عن عينيه..!! ونظر نظرة أخيرة إلى السماء الملبدة بالغيوم وحدث نفسه قائلا:
- إنها ليلة ليلاء..!!
صعد الدرج مسرعاً وخلع عنه ثيابه المبتلة.. و دفن جسده تحت الأغطية الوثيرة.. يرتجف من البرد.. وراح في سبات عميق.. وسريعاً ما وجد أمه تحكم الأغطية حول عنقه وتهرول مسرعة تصنع له المشروبات الدافئة وتحتضنه في صدرها – أي دفء يحتويه هذا الصدر.. وأي حب يملكه ذلك القلب ..؟! كان يدفن رأسه داخله فيشعر بالأمان والدفء و السكينة والحنان والسعادة والشبع مجتمعة..!!
..أخذت تربت على جبينه بيديها وتملس عليه - أي سحر وضعه الله سبحانه وتعالى في تلك اليد..فبمجرد أن تلمس موضع الألم يبرأ..أوموطن الوجع فيهدأ..!! وتقرأ بضعة آيات.. وتتلو بعض الأدعية.. وتتثاءب كثيراً لتطرد الحسد فيجلب تثاؤبها النعاس إليه..وينسى ما كان به..ويخلد إلى النوم..!!
..وتسهر هى بجانبه لا يجفوها النوم أو يغمض لها جفن حتى يستيقظ سليماً معافى..فيضىء وجهها بالبشر وتشرق ابتسامتها وتزفر زفرة ارتياح.. وتسرع تحضر له الطعام الدافىء..وتطعمه كما كانت تطعمه وهو بعد طفل صغير..وهو يتدلل عليها مثلما كان يفعل من قبل..؟!
..وفجأة وجد نفسه يرتجف ثانية من البرد..فأخذ يصيح قائلاً :
- أين أنت يا أمي ..؟! أين ذهبت..؟!
أخذ ينادى عليها ..فوجدها تبتسم إليه ملوحة بيديها.. وهى تبتعد.. وتبتعد..وتبتعد.. فأخذت دموعه تتساقط رغماً عنه
..و أنتفض من نومه على تلك اليد - تربت على وجهة وتبتسم له تلك الابتسامة التي رآها في الحلم - لإبنته الصغيرة ..التى أيقظتها دموعه التي تساقطت على جبينها الندى..فاختطفها وأحتضنها داخل صدره..وأحس بقليلٍ من الدفء..وشعر كما لو أنه يحمل أمه بين ذراعيه ..فنامت هادئة على صدره..!!
..وأشرقت شمس يومٍ جديد ..و خرج كعادته مبكراً إلى عمله.. فوجد الشجرة العجوز التي جفت منذ عدة سنوات قد أسقطتها رياح الزمن العاتية.. فشعر كأنه فقد عزيزاً عليه.. فلطالما أظلتهم بظلها ولعبوا في كنفها ورأت طفولتهم وشبابهم وشاركتهم ذكرياتهم وأفراحهم وأحزانهم..!!
..كانت أمه (رحمة الله عليها) هى من زرعتها .. وأولتها رعايتها ..و كأنها لما ماتت صاحبتها..حزنت عليها وتغضنت أغصانها وجفت أوراقها.. لكنه رفض رفضاً قاطعا أن يقطعها..لأنها كانت قطعة من أمه..وجذورها متأصلة داخله.. حتى أنه كثيراً ما كان يحتضنها.. يبحث داخلها عن الدفء ..!!
..وها قد سقطت اليوم هي الأخرى .. فبكى كما بكى يوم وفاة أمه - بل بكى كما لم يبك من قبل..!!- وتساقطت دموعه قطرات لتختلط بقطرات المطر على الأرض المبتلة.. لتروى شجيرات صغيرة نبتت بجوار جذع الشجرة الأم ..
وهكذا تستمر الحياة وتتجسد الأرواح من جديد..ولا ينضب أبداً نبع الحنان ولا معين الدفء.