6 حضارات انهارت في ظروف غامضة
تقوم الحضارات وتسقط في الهاوية كما تعاقب فصول السنة، إلا أن البعض اندثر في غموض. نشر موقع «هيستوري» تقريرًا يعرض ست حضارات سقطت واندثرت في غموضٍ على مر التاريخ:
لا يخفى على أحد كيف لاقت معظم الحضارات المندثرة نهايتها. فعلى سبيل المثال، قُهرت حضارة الآزتك بما لا يدع مجالًا للشك على يد الغزاة الإسبان، بينما سهلت الهجمات القبلية الجرمانية بوضوح سقوط روما. إلا أنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها علماء الآثار والمؤرخون، ما يزال هناك بعض الانهيارات المجتمعية يغلفها الغموض، نعرض عليك فيما يلي 6 حضارات اختفت فيما يبدو دون ترك أي أثر.
1. حضارة المايا
يمكن القول إنها أكثر حضارات العالم الجديد تقدمًا، ما قبل حضارة العصر قبل الكولومبي –ما قبل اكتشاف الأمريكتين-، فقد نحت المايا المدن الحجرية العملاقة في غابات جنوب المكسيك وأمريكا الوسطى، بالإضافة إلى الساحات الرائعة، والقصور، والمعابد الهرمية، وملاعب الكرة. اشتهروا بكتابتهم الهيروغليفية، فضلًا عن وضع تقويمهم الزمني، والرياضيات، والفلك، والمهارات المعمارية. وصلت المايا إلى ذروة تأثيرها خلال ما يسمى بـالحقبة الكلاسيكية، وتبدأ تقريبًا من عام 250 ميلادية إلى عام 900 ميلادية.
إلا أنه في نهاية الحقبة الكلاسيكية، في واحدة من أكثر ألغاز التاريخ غموضًا، تمرد الشعب فجأة على ملوكهم، وهجروا مدنهم، وتوقفوا عن الابتكار التكنولوجي، وضعت عشرات النظريات لتفسير ما حدث. على سبيل المثال، أشار بعض المؤرخين إلى حدوث جفاف كبير، والذي تفاقم بسبب إزالة الغابات، وتعرية التربة، ما أدى إلى الانهيار المجتمعي، بينما ألقى آخرون اللوم على تفشي الأمراض الوبائية، أو انتفاض القرويين ضد تزايد فساد الطبقة الحاكمة، أو الصراع المستمر بين مختلف مدن الدولة، أو انهيار طرق التجارة، أو مزيج من كل ما سبق. وعلى الرغم من اندثارها، لم تختفِ المايا، إذ إن هناك الملايين من أحفادهم ما يزالون يتحدثون لغة المايا، ويسكنون تلك المنطقة حتى الآن.
2. حضارة السند
بدأت حضارة السند في بناء المستوطنات قبل 8000 سنة، في ما يعرف حاليًا بالهند وباكستان، ما جعلها واحدة من أقدم الحضارات في العالم. مع حلول الألفية الثالثة قبل الميلاد، اتسعت رقعتها إلى أكثر من 386 ألف ميل مربع من الأراضي -وهو أكثر بكثير من الحضارات المشهورة المعاصرة لها، كالحضارة المصرية، وحضارة بلاد الرافدين- كما أنها كانت تمثل تقريبًا 10% من إجمالي سكان العالم حينها. ابتكرت حضارة السند أيضًا طريقة للكتابة، لم تُفك طلاسمها حتى الآن، كما احتوت مدنها على أنظمة صرف صحي، والتي لم يظهر مثيلًا لها حتى العصر الروماني. انهارت حضارة السند -والتي تعرف أيضًا بحضارة وادي نهر السند، أو حضارة هارابا- عام 1900 قبل الميلاد تقريبًا، كما غادر السكان المدن، ويعتقد أنهم هاجروا في اتجاه الجنوب الشرقي.
يعتقد الباحثون بشكل أساسي أن الغزو الآري من جهة الشمال، تسبب في انهيار حضارة السند، إلا أن هذه النظرية لم تعد شائعة الآن، إذ تشير الأبحاث الحديثة، إلى أن دورة الرياح الموسمية توقفت تمامًا لمدة قرنين من الزمان، ما جعل الزراعة مستحيلة تقريبًا. كما أن هناك عوامل أخرى، مثل الزلازل، أو تفشي الملاريا، أو الكوليرا، قد تكون لعبت دورًا في ذلك.
3. حضارة الأناسازي
بنت حضارة الأناسازي مساكن حجرية مذهلة على جوانب المنحدرات في منطقة الزوايا الأربع الجافة، والمعروفة اليوم بالولايات المتحدة، خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بعض هذه المساكن تحتوي على مئات الغرف. ولم يظهر أي مبانٍ أمريكية أخرى أطول منها حتى إنشاء أول ناطحة سحاب في ثمانينات القرن التاسع عشر. إلا أن مساكن المنحدرات تلك، لم تُسكن لفترة طويلة، وعلى ما يبدو لم تكن نهايتها جيدة.
كشف الباحثون عن علامات لمجازر وآكلي لحوم البشر، فضلًا عن دلائل إزالة الغابات، ومشاكل في إدارة توزيع المياه، وموجة جفاف طويلة، ويعتقد الكثيرون أن ذلك عجَّل من الانجراف إلى العنف. ولعل الاضطراب الديني والسياسي المماثل لما واجهته أوروبا بعد الإصلاح البروتستانتي زاد من هذه الفوضى، والذي أدى بالأناسازي في نهاية المطاف إلى هجر أراضيهم عام 1300 ميلادية، والفرار إلى الجنوب. ينحدر من نسلهم حاليًا شعوب الهوبي والزواني، ويرى بعضهم أن مصطلح الأناسازي يعد مصطلحًا مهينًا، ففضلوا بدلًا منه «البولنديين القدامى»، أو «أحفاد البويبلونيين».
4. حضارة كاهوكيا
بفضل انتشار زراعة الذرة من المكسيك، بدأت القرى المحلية بالازدهار قبل حوالي 1200 سنة في وديان الأنهار الخصبة في جنوب شرق ووسط أمريكا. وكان أكبر هذه القرى هي كاهوكيا، والتي تقع على بعد أميال قليلة من مدينة سانت لويس الحالية، في ولاية ميزوري، إذ بلغ عدد سكانها في أوجه 20 ألف نسمة، وهو نفس عدد سكان لندن في ذلك الوقت. كانت محاطة بسياج خشبي مرتفع، وتضمنت تلك المدينة الأمريكية البدائية العديد من الساحات العامة، وما لا يقل عن 120 تلة ترابية، عرفت أكبرها باسم تلة الرهبان، إذ بلغ ارتفاعها 100 قدم، وبنيت بإجمالي 14 مليون وعاء طيني. كما أُنشئ خارج الجدار دائرة من أعمدة خشب الأرز الأحمر، سميت «وودهينج»، والتي على ما يبدو استخدمت كنوعٍ من التقويم الشمسي.
تعد المدينة مركزًا تجاريًّا طبيعيًّا، نظرًا لقرب موقعها من ملتقى أنهار المسيسيبي، وإلنويز، وميزوري. ويرجح أن هذه المدينة قد ازدهرت في الفترة ما بين عامي 1000 و1100، ويقال إنها بدأت في التدهور حوالي عام 1200 ميلادية، إثر غرقها بسبب طوفان مدمر، إلا أنها كانت قد هُجرت منذ وقت طويل قبل وصول كولومبس. فضلًا عن الفيضان، يشير الباحثون إلى الاستهلاك الجائر للموارد الطبيعية، والاضطرابات السياسية والاجتماعية، والأمراض، وما يطلق عليه العصر الجليدي الصغير، كأسباب محتملة تسببت في سقوط كاهوكيا.
5. جزيرة الفصح
في وقت ما خلال الفترة بين عام 300 ميلادية و1200 ميلادية، أبحر البولينيزون مستقلين قوارب، ووجدوا جزيرة الفصح –أحد أكثر المناطق النائية في العالم- فأستقروا بها، تقع الجزيرة على مسافة 2300 ميل غرب تشيلي. إلا أن ما يفوق ذلك تميزًا، أنهم على الرغم من افتقارهم للعجلات وحيوانات الأحمال –ما يعني رافعات أقل كثيرًا-، فقد تمكنوا من تشييد مئات التماثيل الحجرية العملاقة التي تدعى «موآي»، يبلغ طول أكبرها 32 قدمًا، ويزن 145 طنًّا على الأقل. كما أن أحد تلك الـ«مواي» كان يدعى بـ«إل جي جانتي»، بلغ طوله 72 قدمًا، و145 طنًّا على الأقل، إلا أنه لم يتثن له الخروج من المحجر. وبحلول القرن السابع عشر، أطيحت جميع التماثيل، كما تحطم الشعب، وأطيح زعماء الجزيرة وكهنتها.
ومن خلال تحليل شظايا الفحم وحبوب اللقاح الموجودة في لب عينات الرسوبيات، اكتشف العلماء أن سكان جزيرة الفصح قطعوا تقريبًا جميع الأشجار الموجودة، كما أن الفئران أكلت جميع بذور الأشجار قبل موسم إعادة الإنبات في الغابات؛ فكانت تلك كارثة إيكولوجية –بيئية- إذ منعتهم من صنع الحبال، أو حتى الزوارق البحرية، وحدت من قدرة السكان على حرق الحشائش للحصول على الوقود، إيذانًا ببدء مجاعة وحرب أهلية. علاوة على الهلاك الذي نتج إثر وصول الأوروبيين، فمع إرساء أول قدم للأوروبيين على جزيرة الفصح عام 1722، بدؤوا في الحال بإرداء سكان الجزيرة قتلى. بحلول السبعينيات من القرن السابع عشر، نجحت الموجات العديدة لمرض الجدري، فضلاً عن غارات الرقيق العظمى من بيرو في الحد من أعداد السكان الأصليين ليصل إلى 100 تقريبًا.
6- فايكينج جزيرة جرينلاند
وفقًا للملاحم الأيسلندية، لم يمضِ وقت طويل بعد نفي إريك الأحمر مؤقتًا من أيسلندا بسبب ارتكابه جريمة قتل، حتى قاد أسطولًا قوامه 25 قاربًا لاستعمار جرين لاند في عام 985 ميلادية. فأنشأ مستعمرتين –مستعمرة شرقية كبيرة، ومستعمرة غربية صغيرة- أتيح للفايكينج فيهما تربية قطعان الماعز والأغنام والأبقار، وشيدوا الكنائس الحجرية التي ما زالت موجودة حتى اليوم، كما اصطادوا الوعول والفقمات.
وبينما ازدهرت الفايكنج، أو صمدت وبقت على قيد الحياة لمئات السنين، نمت الكثافة السكانية لتصل إلى 5000 فرد. إلا أنه عندما وصلت الحملات الاستكشافية في 1721، وعزمت على تحويل معتقدهم إلى البروتستانتينية، لم تجد سوى أطلالًا. توصل علماء الآثار لاحقًا إلى أن المستعمرة الغربية سقطت قرابة عام 1400 ميلادية، وأن المستعمرة الشرقية هجرت بعد عقود قليلة. وكانت بداية العصر الجليدي الصغير في القرن الخامس عشر بالتأكيد عاملًا مساهمًا في هجر المستعمرتين، إذ تسبب تجمد البحر في انسداد الطريق ذهابًا وإيابًا من جزيرة جرينلاند، كما قصر بالفعل موسم الاستزراع على الأراضي الحَدِّيّة المرتفعة.
وما زاد الأمر سوءًا، انهيار سوق التصدير الرئيسي للفايكينج في جرينلاند: «عاج أنياب الفقمات». لا يعرف أحد ما السبب النهائي في سقوطهم، يعتقد بعض الخبراء أن الفايكينج في جرينلاند حزموا أمتعتهم ببساطة، وعادوا إلى أيسلندا وسكاندنيفيا، بينما يعتقد آخرون أنهم ماتوا من الجوع، واستسلموا لغزو الطاعون، وأبادهم الإسكيمو الذين وصلوا إلى جرينلاند عبر كندا حوالي عام 1200 ميلادية.
وعلى كل حال، لم يكن الفايكينج وحدهم السبب في سقوطهم، بل بالمثل دُفِن ما لا يقل عن ثلاثة مجتمعات على جزيرة جرينلاند بما فيه دورست، التي عايشت لفترة وجيزة جرينلاند الفايكينج، والإسكيمو.