الآية رقم (1)
{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقدمنا: أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند اللّه حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب، ولهذا قال: {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن، ثم عطف على ذلك صفات فقال: {والذي أنزل إليك} أي يا محمد {من ربك الحق}، وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} كقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين} أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق، والعناد، والنفاق.
الآية رقم (2)
{ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون }
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء، من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وهكذا إلى السابعة، وفي الحديث: (ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة) وفي رواية: (العرش لا يقدر قدره إلا اللّه عزّ وجلّ) وجاء عن بعض السلف: أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء، وقوله: {بغير عمد ترونها} السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فعلى هذا يكون قوله: {ترونها} تأكيداً لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن أنهم
قالوا: لها عمد ولكن لا ترى فتكون جملة ترونها صفة ل عمد أي بغير عمد مرئية، وهذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر وقد أشار ابن كثير رحمه اللّه لضعف هذا القول ، وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش}، تقدم تفسير في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى اللّه علواً كبيراً، وقوله: {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها}، وقيل: المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش، وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا القمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}، مع أنه قد صرح بذلك بقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العالمين}، وقوله: {يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
الآية رقم (3 : 4)
{ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي، فقال: {وهوالذي مد الأرض} أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات
شمخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى ما جعل فيها من الثمرات المختلفة
الألوان والأشكال والطعوم {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي من كل شكل صنفان {يغشي الليل النهار} أي جعل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، أي في آلاء اللّه وحكمه ودلائله، وقوله: {وفي الأرض قطع متجاورات} أي أراض يجاور بعضها بعضاً، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سمكية، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو، وقوله: {وجنات من أعناب وزرع ونخيل} يحتمل أن تكون عاطفة على جنات، فيكون {وزرع ونخيل} مرفوعين، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب فيكون مجروراً، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة، وقوله: {صنوان وغير صنوان} الصنوان هو الأصول المجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر: (أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)، وقال سفيان الثوري عن البراء رضي اللّه عنه: الصنوان هي النخلات في أصل واحد؛ وغير الصنوان المتفرقات، وقوله: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال الأعمش، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال: (الدقل والفارسي والحلو والحامض) "رواه الترمذي وقال حسن غريب"، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد، ولهذا قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
الآية رقم (5)
{ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
يقول تعالى لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم: {وإن تعجب} من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد، مع ما يشاهدونه من آيات اللّه سبحانه ودلائله في خلقه، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم هم بعد هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً، فالعجب من قولهم: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: {أو لم يروا أن اللّه الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير}، ثم بعت المكذبين بهذا، فقال: {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم} أي يسحبون بها في النار، {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي ماكثون أبداً لايحولون عنها ولا يزولون.
الآية رقم (6)
{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب }
يقول تعالى: {ويستعجلونك} أي هؤلاء المكذبون، {بالسيئة قبل الحسنة} أي بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله: {ويستعجلونك بالعذاب} الآية، وقال تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع}، وقال: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها}، وقال: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} الآية، أي عقابنا وحسابنا، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم، يطلبون أن يأتيهم بعذاب اللّه، قال اللّه تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات} أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم؛ ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس، مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: {فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}، وقال: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف، عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لولا عفو اللّه وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد) "أخرجه ابن أبي حاتم".
الآية رقم (7)
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد }
يقول تعالى إخباراً عن المشركين إنهم يقولون كفراً وعناداً: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً، قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} الآية، قال اللّه تعالى: {إنما أنت منذر} أي إنما عليك ان تبلغ رسالة اللّه التي أمرك بها، و{ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء}، وقوله: {ولكل قوم هاد} قال ابن عباس: أي ولكل قوم داع، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير . عن مجاهد {ولكل قوم هاد} أي نبي كقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}، وقال يحيى بن رافع: {ولكل قوم هاد} أي قائد، وعن عكرمة: {ولكل قوم هاد}: هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال مالك {ولكل قوم هاد}: يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ.
الآية رقم (8 : 9)
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال }
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل الإناث، كما قال تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} أي ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة} الآية، وقال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث} أي خلقكم طوراً من بعد طور، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اللّه إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد)، وفي الحديث الآخر: (فيقول الملك أي رب! أذكر أم أنثى! أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول اللّه ويكتب الملك)
وقوله تعالى: {وما تغيض الأرحام وما تزداد}، قال البخاري، عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا اللّه، لا يعلم ما في غد إلا اللّه، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللّه، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللّه)، وقال ابن عباس: {وما تغيض الأرحام} يعني السقط {وما تزداد}، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فلذلك الغيض والزيادة التي ذكر اللّه تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى، وعنه: ما نقصت من تسعة وما زاد عليها، وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيتي، وقال ابن جريج، عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل، وقال مجاهد: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال: ما ترى من الدم في حملها وما تزداد على تسعة أشهر وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحّاك ، وقال مجاهد أيضاً {وما تغيض الأرحام}: إراقة الدم حتى يحس الولد، {وما تزداد} إن لم تهرق الدم تم الولد وعظم، وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل، فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكاره لمكانه، فإذا قطعت سرته حوّل اللّه رزقه إلى ثديي أمه، حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم، ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول: يا ويحك، غذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول: {واللّه يعلم ما تحمل كل أنثى} الآية، وقال قتادة: {وكل شيء عنده بمقدار} أي بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلاً معلوماً، وفي الحديث الصحيح: أن إحدى بنات النبي صلى اللّه عليه وسلم بعثت إليه أن ابناً لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول: (إن للّه ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب) الحديث بتمامه، وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء {الكبير} الذي هو أكبر من كل شيء، {المتعال} أي على كل شيء، {قد أحاط بكل شيء علما} وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً.
الآية رقم (10 : 11)
{ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال }
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}، وقال: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون}، وقوله: {ومن هو مستخف بالليل} أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل، {وسارب بالنهار} أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كلاهما في علم اللّه على السواء، كقوله تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم} الآية، وقوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}، وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه} أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) الحديث، وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم)، وقال ابن عباس: {يحفظونه من أمر اللّه} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر اللّه خلوا عنه، وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن اللّه فيه فيصيبه.
وقال الإمام أحمد رحمه اللّه، عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة) قالوا: وإياك يا رسول اللّه، قال: (وإياي، ولكن اللّه أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير) "رواه مسلم وأحمد عن عبد اللّه بن مسعود". وقوله: {يحفظونه من أمر اللّه} قيل: المراد حفظهم له من أمر اللّه، قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير، وقال قتادة: {يحفظونه من أمر اللّه} يحفظونه بأمر اللّه، وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئا يقيه، ولولا أن اللّه وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطفتم، قال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له. وقال أبو مجلز: جاء رجل إلى علي رضي اللّه عنه وهو يصلي، فقال: احترس، فإن ناساً يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر له، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة. وقال بعضهم: {يحفظونه من أمر اللّه} بأمر اللّه، كما جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول اللّه أرأيت رقيا نسترقي بها، هل ترد من قدر اللّه شيئاً؟ فقال: (هي من قدر اللّه)، وقال ابن أبي حاتم: (أوحى اللّه إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة اللّه فيتحولون منها إلى معصية اللّه إلا حوّل اللّه عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون(، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب اللّه: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} "أخرجه ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخغي موقوفاً، وقد ورد في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة".