بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب المبين، على نبيه الصادق المصدوق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
منزلة القرآن في نفوس أهله منزلة عظيمة لا يصفها شعور ولا يعبر عنها لفظ، إلا من فتح الله عليه ببعض فتوحات التعبير فيحسن وصف ذلك الشعور، كما أن لبعض السور خاصة دون غيرها في نفس المؤمن مكانة مختلفة يجهلها حتى صاحبها؛ فتحدث فيه تأثيرًا غير اعتيادي أثناء التلاوة والتدبر بما لامست به وجدانه أو وشغاف قلبه.
وإن لمطلع سورة الأعراف هذه المنزلة غير الاعتيادية في نفسي، مما دعاني إلى تدوين بعض التأملات والوقفات مع أوائل آي سورة الأعراف.
سورة الأعراف مكية النزول إلا ثمان آيات منها، وهي من قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة} [الأعراف: 163] إلى قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُم} [الأعراف: 171]
وللمكي من سور القرآن الكريم مواضيع وأساليب معينة ومحاور خاصة، تدور حول عقيدة التوحيد وبداية الخلق والتذكير بالأمم السابقة وعاقبة تكذيبها لما بعث به الأنبياء جميعًا، وهو توحيد الله دينًا قيمًا خالصًا.
(المص) من الحروف المقطعة التي اختلف فيها المفسرون، وأرجح الأقوال أنها من العلم الذي اختص به الله تعالى آثره لنفسه، إلا أن بعض العلماء والعارفين قد ربطوا هذه الحروف بتعظيم القرآن، فلا تأتي هذه الحروف في بداية سورة إلا ويذكر فيها تعظيم القرآن الكريم وتمجيده.
إن دعوة التوحيد وعظمتها تتطلب التسليم الكامل بالأخذ بمقتضياتها علمًا وعملًا وتبليغًا، وتحمل مشقات هذا الدعوة المباركة فلا تضيق بها الصدور من القبول أو التسليم، أو تفتر عنها الجوارح عملًا، أو تحزن النفوس من إعراض المعرضين في مرحلة التبليغ؛ {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]
ثم تنتقل الآيات من مرحلة التسليم بهذه الدعوة إلى مرحلة أخرى {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وهو خطاب التحذير والإنذار من الشوائب التي تشوب العقيدة الصافية، بما يُدخله عليها الأئمة المضلون أو الكفار المكذبون أو الأعداء المشوهون.
ثم ينتقل سياق الآيات بما يقتضيه حال الإنذار إلى حال العظة والاعتبار بذكر عاقبة من عاند التبليغ والإنذار من الأمم السابقة، وهي عاقبة الخسران والهلاك، والعاقل من اعتبر بغيره قبل أن يعتبر به وآمن وأسلم ونجا من مكر الله واستدراجه وفجأة العذاب {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]
فلقد انتهت المهلة وحل العذاب وتقطعت الأسباب؛ فما بقي إلا حال الحسرة والندامة (إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 5]؛ فتصف الآيات هذا الحال البائس الذي يقتضي الاعتراف بالجريمة؛ فلا سبيل للنجاة أو التدارك والتصحيح، وتستمر الآيات في ذكر عاقبة المكذبين في يوم الفصل.
وما ذُكرت عاقبة المجرمين إلا ويلازمها ذكر عاقبة المؤمنين المصدقين في كل سور القرآن الكريم {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] وللرسل يومئذ مقال فهم الشهداء على الفئتين، والفئتان شاهدتان على نفسيهما أيضًا {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين} [الأعراف: 6]
ثم تعود السورة إلى استعراض بداية الخلق وقصة استخلاف آدم عليه السلام في الأرض، وغواية إبليس لآدم وزوجه وذريتهما، وتستمر المكائد الشيطانية لغواية جنس البشرية وصرفهم عن جادة الحق منذ خلق آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة. وقصة مكيدة إبليس لآدم عليه السلام قصة مشهورة، خلد فيها التاريخ أول توبة وعودة إلى الله تعالى بعد الاعتراف بالذنب. والتوبة بحد ذاتها محض فضل واجتباء من الله تعالى، فألهمهما كلمة الإنابة {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]
من المعلوم أن جريمة العجب والكبر هي أول ما عُصي به الله تعالى منذ خلق آدم عليه السلام، حين أعجبت الشيطان نفسه المخلوقة من مادة نارية في طبيعتها أقوى من تلك الطينية التي خُلق منها آدم {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]
وقد سبق إبليس آدم في طاعة الله بملازمته للملائكة، فلم يكن من صنف الملائكة إنما كان ملازمًا لهم، وذكر المفسرون أنه أعبد الجن حينها على الإطلاق لملازمته للملائكة في عبادتهم لله بنفس القوة والاستمرارية.
ورغم عصيان إبليس إلا أن الله تعالى قد أجاب دعوته في إمهاله لغواية البشرية {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } [الأعراف: 15] فشاءت إرادة الله إمهال الظالمين مع وليهم إبليس إلى أن يكون عذاب الدنيا والآخرة؛ فحكمة الله تعالى تقضي أن يجعل للجنة أهلًا وللنار أهلًا، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
وبدأت سلسلة الغواية الشيطانية وتنفيذ إبليس لوعيده المشئوم بإضلال آدم قبل ذريته؛ فقد تيقن بعاقبته والخلود في النار، وأبى إلا أن يجمع فريقه من أصحاب السعير، فأمعن في الخديعة حين تلبس بلبوس الناصحين، وهذا ديدن المضلين من بعده {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] وزين لهما المعصية فسماها بغير اسمها وأظهرها بغير شكلها وكأن فيها الفوز والخلود {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]
وسيق آدم وزوجه إلى خديعة إبليس، وتمت المعصية بالأكل من الشجرة المنهي عنها، ورافق المعصية شؤمها فـ{بدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22] فللمعصية تبعات شؤم آنية ناهيك عن العقوبة الآجلة.
إلا أن اللطف الرباني تجلى بمناداة الله وعتابه لآدم وزوجه {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا} [الأعراف: 22] فما عوتب أحد إلا والمعاتب يرجو عودته وارتداعه؛ فكان لهما من العقل ما يجعلهما يتحملان مسؤولية خطأهما، بخلاف ما يفعله ذريتهما الكافرون من بعدهما، حين يتعذرون بإضلال المضلين لهم وتنصلهم من مسؤولية الذنب {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب: 67]
واستمر اللطيف في لطفة بإقالة عثرة آدم وزوجه وستر عيبهما {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] ولباس التقوى خير ما أنعم به على بني آدم، وهو مجمع فضائل النفس البشرية كلها؛ فالتقوى ماحية للذنوب ساترة للعيوب مرققة للقلوب ومفضية إلى رضا علام الغيوب.
هذا وإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر : صيد الفوائد