الحلقةالواحدةوالثلاثون
*********
رغم أنني كنت نعسى في البداية، ألا أن النوم خاصمني ذلك الصباح..
وليد جلس في الصالة يقرأ القرآن، و جلست أنا على مقربة أنصت إليه..
إلى أن عاد الرجل العجوز بعد طلوع الشمس.. فختم وليد قراءته و راح يتحدّث معه..
كانا يتحدثان بشأن المزرعة و ما سيفعلانه هذا اليوم.. و كنت أستمع إليهما ببلاهة ! فأنا لا أفقه كثيرا مما يذكرون !
وليد التفت إلى الآن و قال :
" سوف أخرج للمزرعة الآن، أتأتين معي ؟؟ "
وقفت من فوري و تقدّمت ناحيته.. قال متما عبارته السابقة ببطء :
" أم تفضلين العودة للنوم ؟ "
" سآتي معك.."
و خرجت معه إلى المزرعة..
الهواء كان باردا و كنت أرتدي العباءة فوق ملابس النوم، لذا شعرت بالبرودة تخترق عظامي
قال وليد :
" سنبدأ بجولة تفقدية "
حذائي كان عالي الكعب و لا يصلح للسير على الرمال، لذلك طلب مني وليد ارتداء أحد الأحذية المطاطية الموجودة عند مدخل المنزل...
سرنا في اتجاه شروق الشمس.. و كم كان منظرا جميلا لم أر مثله منذ زمن...
الرياح كانت في مواجهتنا، تغزو أنفي رغما عني ، و تزيد من شعوري بالبرد..
أخذت أفرك يدي بتكرار.. أما وليد فكان يسير بثبات في وجه الريح ، و لا يبدو على جسمه أنه يتأثر بها !
كالجبل تماما !
قال لي:
" الجو بارد.. أتفضلين العودة للمنزل ؟ "
" ماذا عنك ؟ "
قال :
" سأبدأ حرث منطقة معينة هنا، سنقوم بزرع بذور حولية جديدة فيها.. "
و أشار إلى المنطقة المقصودة...
قلت :
" أنت تحرثها ؟؟ "
و يبدو أن سؤالي هذا ضايقه أو أحرجه.. نظر إلي برهة صامتا ثم قال و هو يحدّق في تلك المنطقة :
" نعم أنا يا رغد.. فهذا هو عملي هنا.. و من هذا العمل أعيش و أعيل نفسي.. و صغيرتي .."
ثم التفت إلي و قال :
" فهل يصيبك هذا بخيبة أمل أو .. اشمئزاز ؟ "
قلت بسرعة :
" لا ! لم أٌقصد ذلك.. "
" إذن ؟ "
" تعرف يا وليد.. فخلال التسع سنين الماضية كنت أعتقد أنك... "
و بترت جملتي.. فقد أحسست أن هذا يؤلمه.. و إذا تألم وليد قلبي فأنا أموت ..
قلت :
" لكن ، ألا يمكنك مواصلة الدراسة الآن ؟؟ "
قال :
" إنني أدرس الآن في معهد محلي، و إن تخرجت منه بشهادة معتبرة فستكون لدي فرص أفضل للعمل ، لكن إلى ذلك الوقت سأظل مزارعا "
لم يعجبني ذلك، فأنا لا أريد لوليد أن يغمر يديه في التراب ..، بل أن يعلو السحاب، لكني لم أشأ إحراجه، فقلت :
" أتمنى لك التوفيق "
ابتسم وليد ابتسامة رضا، و تابعنا الطريق...
بقيت أراقبه و هو يعمل، تارة شاعره بإعجاب به ، و تارة شاعرة بشفقة عليه ، و تارة بغضب من الأقدار التي أوصلت ابن عمّي إلى هذا المستوى..
ليتني أستطيع منحه ثمان سنين من عمري، تعويضا عما خسر.. بل ليتني أهديه عمري كله.. و كل ما أملك..
الحماس الذي تملكني أثناء مراقبة وليد ، و الحرارة التي تنبعث من جسده و هو يعمل بجهد، و من صدره و هو يتنفس بعمق، و من عينيه و هو ينظر إلي ، كل هذه تجمعت معا متحدة مع أشعة الشمس التي ترتفع في السماء، و أكسبتني دفئا و حيوية لا نظير لهما !...
بعد فترة ، أقبلت أروى..
و الآن، لست فقط أشعر بالدفء ، بل و بالاشتعال ، و الاحتراق أيضا ...
" صباح الخير رغد ! نهضت باكرة ! "
باكرة جدا ! كم تبدين حيوية و نشطة بعد نوم هانىء ! أنا لم أنم كما ينبغي ..
قلت :
" صباح الخير"
وليد كان موليا ظهره إلينا هذه اللحظة ، رفعت أروى صوتها ، و كذلك يدها و هتفت و هي تلوّح :
" صباح الخير يا وليد "
وليد استدار و نظر إليها و رد التحية...
هتفت :
" تعال ، فقد أعددنا الفطور "
قال :
" حسنا ، أمهليني دقيقتين اثنتين "
و أتم ما كان يقوم به ...
أروى التفت إلي و قالت :
" أعددت فطورا مميزا من أجلك ! آمل أن يعجبك طهو يدي ! الجميع يصفني بالطاهية الماهرة ، و وليد يعشق أطباقي ! "
وليد ماذا ؟
يعشق أطباقها ؟؟ يا للمغرورة !
قلت :
" وليد يعشق أطباق والدتي فهي لا تقارن بشيء ! "
أروى قالت :
" رحمها الله "
و تذكرت أنه لم يعد لدي والدة ! و لم يعد بإمكان وليد تذوّق تلك الطبخات اللذيذة التي يلتهمها عن آخرها...
ضاق صدري لهذه الذكرى.. و أحنيت رأسي إلى الأسفل بحزن..
أورى لاحظت ذلك فقالت :
" آسفة.. "
لم أتجاوب معها... ، قالت :
" كم كنت متشوقة للتعرف إليها فقد حدّثني وليد عنها كثيرا.. و كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر .. "
رفعت نظري الآن إليها، ليس الحزن هو البادي على وجهي بل الغيظ !
لماذا تتحدّث عن وليد أمامي ؟؟ و لماذا يتحدّث إليها وليد عن أمي ؟ أو عن أي شيء آخر في الدنيا ؟؟ هذه الدخيلة لا تمت إلينا بصلة و لا أريد لمواضيعنا أن تذكر على مسمع منها ...
وليد كان يمشي مقبلا نحونا.. و حين وصل ، شبكت أروى ذراعها اليمنى بذراعه اليسرى و هي تبتسم بسرور ...
وقفت أنا أنظر إليهما بغيظ و تحذير ! ما لم تفرقا ذراعيكما عن بعض فسأقطعهما !
لم يفهما تحذيري، بل سارا جنبا إلى جنب على هذا الوضع.. سرت أنا إلى الجانب الأيمن من وليد... و سرنا و نحن ندوس على ظلالنا.. و التي يظهر فيها جليا تشابك ذراعيهما ..
حسنا ! من تظن هذه نفسها ؟ وليد ابن عمّي أنا و ولي أمري أنا!
و بدون تفكير، رفعت أنا ذراعي و أمسكت بذراع وليد اليمني بنفس الطريقة ، و بكل تحدي !
وليد نظر إلي بسرعة و بنفس السرعة أضاع أنظاره في الرمال التي نسير فوقها... و بدا وجهه محمرا ! لكنه لم يسحب ذراعه مني ..
تابعنا السير و أنا أراقب الظل أمامي... و لم أترك يده حتّى فعلت هي ذلك... !
صحيح أن الفطور كان شهيا ألا أنني أصبت بعسر هضم من مشاهدة العلاقة الحميمة بين وليد و أروى.. كانا يجلسان متقابلين، و تجلس أم أروى على رأس المائدة، و أنا إلى جانب وليد، أما العجوز فلم يكن معنا بطبيعة الحال...
لا أريد منهما أن يجلسا متقابلين، و لا متجاورين، و لا في نفس المنزل، و لا حتى نفس الكوكب..
فيما بعد، عاد وليد للعمل في المزرعة و أروى تشاركه ، و أنا أتفرّج عليهما بغضب.. و أحاول الإنصات جيدا لكل ما يقولان..
أراد وليد بعد ذلك الذهاب إلى مكان ما لإحضار بعض الأشياء، و سألني إن كنت أرغب في مرافقته، أجبت بسرعة :
" طبعا سأذهب معك ! هل ستتركني وحدي ؟؟"
أتذكرون سيارة الحوض الزرقاء التي ركبتها ذات يوم، للذهاب إلى المستوصف ؟
إنها هي.. نفس السيارة التي يحتاجها وليد في مشواره. فيما كنا نقترب منها أقبلت أروى مرتدية عباءتها و وشاحها الملون، قائلة :
" أوصلني للسوق سأشتري بعض الحاجيات "
و اقتربت من الباب و فتحته، فسار وليد نحو باب المقود.. و قبل أن ترفع أروى رجلها إلى العتبة، أسرعت أنا و ركبت السيارة لأجلس فاصلا بينهما! هذا ابن عمي أنا.. و أنا الأقرب إليه من كل بنات حواء ، و أبناء آدم أيضا ... أليس كذلك ؟؟
و من السوق اشتريت أنا أيضا بعض الأشياء، من ضمنها عدّة للرسم ، فالمزرعة و مناظرها البديعة أعجبتني كثيرا .. و لسوف أقضي صباح الغد في رسم مناظر خلابة منها ، عوضا عن مراقبة وليد و هو يعمل...
عندما عدنا ، وجدنا ترتيب أثاث الصالة قد تغيّر، لقد قام العجوز و أخته بنقل المقاعد من المجلس إلى الصالة، و نقل سرير وليد من الغرفة الخارجية إلى المجلس !
استغرب.. أي قوّة يملك هذا العجوز ليحرك هذه الأثقال !
ما شاء الله !
قالت أم أروى :
" ها قد أصبحت لديك غرفة داخلية يا وليد.. هل تحس بالاطمئنان على ابنة عمّك الآن ؟؟ "
وليد ابتسم، و وجهه متورد .. و شكر الاثنين .. ثم التفت إلي و قال :
كنت أقف إلى جواره .. رفعت رأسي و همست في أذنه :
" لكن ابق الباب مفتوحا "
وليد ابتسم، و قال :
" حاضر "
همست :
" و اطلب منهم إعادة أحد المقعدين الكبيرين للداخل، أو قم أنت بذلك "
وليد تعجّب و قال :
" لم ؟ "
قلت :
" احتياط ! ربما تظهر الأشباح ثانية "
ضحك وليد، و البقية أخذوا ينظرون إليه باستغراب !
قال :
" حاضر ! "
قلت هامسة :
" قبل الليل "
قال :
" حاضر سيدتي ! كما تأمرين .."
و حين يقول وليد قلبي ذلك.. فأنا أشعر بدغدغة ناعمة تسري في جسدي ابتداء من باطن قدمي ّ و حتى رموش عيني ّ !
و من أطراف تلك الرموش ألقيت بنظرة حادة على أروى و أنا أخاطبها في رأسي :
" أرأيت ِ ؟ ستعرفين من تكون رغد بالنسبة لوليد.. و لن أكون رغد ما لم أزيحك عن طريقي ! "
~ ~ ~ ~ ~ ~
مضت الأيام هادئة و مستقرة ، و انشغالي بالعمل جعلني أتناسى وفاة والدي ّ و الحزن الذي خلّفه...
بصعوبة تمكنت من إقناع رغد بالبقاء في المزرعة أثناء غيابي كل يوم في فترة الدراسة.. و لأنها كانت فترة صباحية، و لخمسة أيام في الأسبوع، فإننا لم نعد نلتقي إلا عند الظهيرة...
و أثناء عملي في الحقل، تقوم هي بمراقبتي أو برسم بعض اللوحات.. بينما أروى تساعدني أو تساعد أمها في شؤون المنزل..
أنا كنت أقوم بعمل مضاعف و بأقصى ما أمكنني ، و لساعات أطول.. و رسمت بعض الخطط لتطوير المزرعة و الاستعانة ببعض العماّل الثابتين..
رغد بدأت تتأقلم مع العائلة و تشعر بالانتماء إليها بعد فترة من الزمن.. و صارت تساهم في بعض أعمال المنزل البسيطة، و التي لم أكن أنا أريد تحميلها عبئها، لولا أن الظروف قضت بذلك..
تعذّر علينا زيارة سامر نهاية الأسبوع الأول، ألا أننا زرناه في الأسبوع التالي، و في الواقع.. خرجت من تلك الزيارة متضايقا لما أثارته في قلبي من الذكرى الأليمة .. ذكرى والدي ّ..
سامر لم يبد أنه خرج من الأزمة بعد.. بل كان غارقا في الحزن.. و حتى زيارتنا له لم تحرز تقدما معه..
أما دانة ، فاتصلت بها مرات ثلاث خلال الأسبوعين، و أعطتني الانطباع بأنها امتصت الصدمة و في طور النقاهة.. عدا عن ذلك ، فهي سعيدة و مرتاحة مع زوجها و عائلته في تلك البلد..
أوضاع بلادنا لم تتحسن، بل بقيت بين كر و فر..مد و جزر.. أمدا طويلا..
الشيء الذي بدأ يقلقني هو الملاحظة التي أبدتها لي أروى إذ قالت :
" يبدو أن رغد تعاني اضطرابا نفسيا يا وليد.. إنها لا تنام بسهولة.. بل تبقى لما لا يقل عن الساعة تتقلب في الفراش، و أحيانا تجلس.. و تنهض.. و تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في توتر.. و في أحيان أخرى، أسمعها تتحدّث أثناء النوم.. أو تصحو و تبكي و تنادي أمها ! أعتقد أن وفاة والدتها قد أثرت عليها كثيرا .. "
سألتها يومها :
" هل يتكرر ذلك كثيرا ؟؟ "
" تقريبا كل ليلة ! كما و أنها تصر على إبقاء مصباح النوم مضاء ً بينما أنزعج أنا من النوم مع وجود النور ! "
هذه الأمور لاحظتها أروى التي تشارك رغد في الغرفة، و التي يبدو أنها تعاني منها منذ فترة دون أن يلحظها أحد...
و هذه الأمور جعلتني أقلق بشأنها.. و أفكر في طريقة تجعلها تنام بطمأنينة و نوما هادئا.. و هداني الله إلى هذه الفكرة...
عندما كانت صغيرة ، رغد كانت تعشق سماع القصص.. و تطالبني بها كل ليلة حتى تنام بهدوء و قرّة عين..
و لأنها كبرت الآن، فلم يعد هناك مجال لتك القصص! و لكن.. لدينا كتاب هو أجل و أعظم من أي كتاب، و بذكر ما فيه تطمئن القلوب.. إنه القرآن.
في كل ليلة، قبيل نومهما أبقى مع رغد و أروى في غرفتهما و أتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .. و تظل رغد منصتة إلي، إلى أن يغلبها النعاس فتنام بهدوء و سكينة..
في إحدى الليالي، و بعدما نامت رغد، خرجنا أنا و أروى من الغرفة ..
لم نكن نشعر بالنعاس وقتها، فطلبت مني أروى القيام بجولة قصيرة معها في المزرعة ..
" لكن.. رغد تمانع خروجي و هي بالداخل، أو دخولي و هي بالخارج.. "
" لكنها نائمة الآن "
" نعم و لكن .. "
" هيا يا وليد ! إننا لم نتحدّث مع بعضنا منذ حضورها ! لم تفارقك ساعة واحدة إلا للنوم ! "
استأت من كلام أروى و قلت :
" أرجو ألا يكون وجودها قد أزعجك بشيء ؟ "
" لا لا ، لا تسىء فهمي، أقصد أنني أريد التحدث معك حديثا خاصا بنا أنا و أنت ! كأي خطيبين.. "
و أمسكت بيدي و حثّتني على السير معها إلى الخارج...
حديثنا كان في بعض شؤوننا الخاصة.. و كانت أروى تتكلم بسرور .. بل كانت في قمّة السعادة.. و أخذنا الحديث لساعة من الزمن..
فجأة ، سمعت صوت رغد يناديني ...
" وليــــــــــد "
سحبت يدي من يد أروى و ركضت مسرعا نحو المنزل ...
رغد كانت تقف في الساحة الأمامية تتلفت يمنة و يسرة..
" أنا هنا رغد "
و لوّحت بيدي، و أنا راكض باتجاهها...
لما رأتني رغد... وضعت يدها على صدرها و تنهدّت بقوة...
و حين صرت أمامها مباشرة، أمكنني رؤية علامات الفزع على وجهها و الذعر المنطلق من عينيها...
" صغيرتي ماذا حصل ؟؟ "
" إلى أين ذهبت ؟؟ "
" هنا في المزرعة، أتمشى قليلا "
و ظهرت الآن أروى فألقت عليها رغد نظرة .. ثم نظرت إلي .. و بدأت تعبيرات وجهها تتغير حتى صارت إلى الحزن و البكاء ..
" صغيرتي ما بك ؟ "
قالت رغد فجأة :
" إذن هذا ما تفعله ؟ تتركني أنام وحدي و تخرج للتنزه مع خطيبتك ؟؟ "
فوجئت بقولها ، أردت أن أوضّح لها أنها المرة الأولى التي نخرج فيها .. لم تعطني المجال، بل قال و هي مجهشة بكاء:
" إذا لم تكن متفرغا لرعايتي فارسلني إلى خالتي.. إذا كنت ُ عبئا يعوق دون تنزّهك مع خطيبتك فخذني لبيت خالتي و تخلّص منّي "
و انفجرت بكاء ً...
لم استوعب كلامها أول الأمر..
قلت مذهولا :
" رغد ! ما الذي تقولينه !؟ "
قالت :
" كنت أعرف أنها نهايتي.. ضعت ُ بعد والدي ّ .. لماذا ذهبا و تركاني؟ لمن تركتماني يا أمي و يا أبي ؟ يا لهواني على الناس أجمعين .. خذني يا رب إليهما.. خذني يا رب إليهما "
لم أتحمّل سماعها تدعو على نفسها هكذا .. صرخت :
" كفى يا رغد أرجوك.. ماذا حصل لكل هذا ؟؟ "
" و تسأل ؟؟ "
" فقط لأنني خرجت من المنزل و أنت بداخله ؟ "
قالت أروى :
" أنا من طلب منه ذلك، لم أكن أتوقع أن يضايقك الأمر لهذا الحد "
رغد نظرت إلى أروى نظرة غضب و صرخت :
" اسكتي أنت ِ "
قالت أروى :
" أنا آسفة "
لكن رغد عادت تصرخ :
" قلت اسكتي أنت.. ألا تسمعين ؟؟ "
أروى شعرت بالحرج، فغادرت الساحة عائدة إلى المنزل...
لم يكن تصرفا لائقا.. و أعرف أنه ليس بالوقت المناسب لأعاتب رغد عليه.. لكنني قلت :
" إنها قلقة بشأنك "
و يبدو أنها لم تكن الجملة المناسبة, لأن وجه رغد ازداد غضبا ، و قالت بحدّة :
" هل تخشى على مشاعرها لهذا الحد ؟ إذن هيا اذهب و طيّب خاطرها .. و دعني أنا أناجي الميتين، فلربما سمعاني و أحسا بهواني و ضياعي بعدهما ، و خرجا من قبريهما و أتيا إلي.. و أخذاني معهما .. و أرحتك مني "
و مرّة أخرى تدعو على نفسها بالموت أمامي .. قلت بحدّة :
" كفى يا رغد كفى.. "
رغد صرخت :
" لا تصرخ بوجهي "
" أنت تثيرين جنوني.. كيف تدعين على نفسك و أمامي ؟؟ "
و عوضا عن التراجع ، رفعت بصرها و يديها إلى السماء و راحت تهتف بصوت عال :
" يا رب خذني إليهما.. يا رب خذني إليهما .. يا رب خذني إليهما "
ثم جثت على الأرض و صارت تبكي بقوة و مرارة... مخفية وجهها خلف يديها
لم أعرف لم كل ذلك.. ألا أنني لم أحتمل.. هويت إلى جانبها، و ناديتها بلطف ، و لم تجبني...
أبعدت ُ يديها عن وجهها و قلت بعطف :
" كفى أرجوك.. "
نظرت إلي ّ نظرة لم أفهم طلاسمها... مددت يدي و مسحت على رأسها من فوق الحجاب، و قلت :
" أنا آسف يا صغيرتي.. أعدك بألا أخرج من المنزل ما دمت ِ فيه دون علمك و رضاك.. "
لم يتوقف سيل الدموع..
قلت :
" أرجوك رغد.. لا تجعلي المزيد من اللآليء تضيع هباء ً .. آسف و لن أكررها ثانية .. "
تحدّثت أخيرا و قالت :
" و إن طلبت منك الشقراء ذلك ؟ "
قلت :
" لا تهتمي.. "
قالت :
" وليد .. أنا أرى كوابيس مفزعة.. أمي.. أبي.. الحرب.. النار .. الحريق.. الجمر.. عمّار.. كلهم يعبثون بأحلامي.. لا أحد ليشعرني بالأمان.. سأموت من الخوف ذات ليلة.. سيتوقف قلبي و أموت فزعا.. و لا أحد قربي.. "
جذبتها إلي بسرعة، و أمسكتها بقوّة.. كحصن منيع يعوق أي نسمة عابرة من أذيتها...
" أعوذ بالله.. بعد ألف شر و شر يا عزيزتي.. لا تذكري الموت ثانية أرجوك يا رغد.. رأيت منه ما يكفي.. حاشاك أيتها الغالية "
نعم، رأيت من الموت ما يكفي.. ابتداءً بعمّار.. و مرورا بنديم و رفقاء السجن.. و عبورا على المدينة المدمّرة .. و انتهاء ً بوالدي ّ الحبيبين...
أبعدتها و قلت :
" أنا آسف، سامحيني هذه المرّة .."
رغد مسحت بقايا الدموع .. و قالت :
" لقد قلت مترا ، ألم تقل ذلك ؟ "
نظرت إليها بتعجّب.. و عدم فهم !
" أي متر ؟ "
قالت :
" هذا الذي ستفقأ عينيك إذا ما ازداد طوله فيما بيننا"
و تذكّرت حينها الجملة التي قلتها قبل أسابيع ، في آخر يوم لنا في شقة سامر قبل الرحيل !
و الآن ماذا ؟؟
رغد تمد يدها اليمنى ، و قد أبرزت إصبعيها السبابة و الوسطى ، و ثنت الأصابع الأخرى، و تحرّكها بسرعة نحو وجهي و توقفها أمام عيني مباشرة ، و تقول :
" أ أفقأهما لك الآن ؟؟ "
قلت لكم.. ستصيبني هذه الفتاة.. بالجنون !
~ ~ ~ ~ ~