خُطَبّتي الجمعة من المسجد النبوي
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور / علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة بعنوان:
إغتنام العمر في الطاعات
والتي تحدَّث فيها عن الواجب على كل مسلم من اغتنام حياته في الأعمال الصالحة،
والبُعد عن المُحرَّمات،
وذكر الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك،
مُنبِّهًا على الاهتمام بشباب الأمة خاصَّةً بدفعهم إلى الخيرات،
وصرفِهم عن المُلهِيات وما يضُرُّ بدينِهم ودُنياهم.
الحمد لله الذي خلق كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تقديرًا
{ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }
[ الزمر: 5 ]
أحمد ربي وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهَّار،
وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى المُختار،
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه المُتقين الأبرار.
أما بعـــــد ...
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛
فمن اتَّقَى اللهَ وقاهُ الشُّرورَ والمُهلِكات، وعافاه من خِزيِ العُقوبات،
وفازَ في أُخراه برِضوان ربِّه والجنات.
عباد الله:
إن ربَّكم - عز وجل - قد جعل هذه الدارَ الدنيا دارَ عمل، لكلٍّ فيها أجل،
وجعلَ الآخرةَ دارَ جزاء على ما كان في هذه الدارِ من الأعمال؛
إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، قال الله تعالى:
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }
[ النجم: 31 ]
وقال تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }
[ الكهف: 7 ].
وقد أعانَ الله الناسَ على ما خُلِقُوا له من العبادة بما سخَّرَ لهم من مخلوقاتِه،
وما آتاهم من الأسباب
قال الله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }
[ لقمان: 20 ]
وقال تعالى:
{ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
[ الجاثية: 12، 13 ]
وقال - عز وجل -:
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
[ إبراهيم: 32- 34 ].
وإذا تفكَّرَ الإنسانُ واعتبَر، وعلِمَ ما منَّ الله به عليه من عطاياه وهِباته،
وما خصَّه الله به من الصِّفات والسَّجايا، والتمكُّن من عمل الخيرات وترك المُحرَّمات،
وعلِمَ أن الدارَ الآخرة هي دارُ الأبَد؛ إما نعيمٌ مُقيمٌ، وإما عذابٌ أليمٌ.
إذا علِمَ الإنسانُ ذلك حفِظَ وقتَه، وحرِصَ عليه، وعمَرَ زمنَ حياته بكل عملٍ صالحٍ،
وأصلَحَ دُنياه بالشَّرع الحَنيف؛ لتكون دُنياه خيرًا له ولعقِبِه، ولتكون حسنةَ العاقِبَة.
فلا خيرَ في دُنيا امرئٍ لا يحكُمُها الدينُ القيِّمُ،
ولا بركةَ في حياةٍ دُنيويَّةٍ لا يُهيمِنُ عليها دينُ الله - عز وجل -، قال الله تعالى:
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }
[ الإسراء: 18- 20 ]
وقال تعالى:
{ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
[ التوبة: 55 ]
وقال تعالى:
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
[ الأعراف: 32 ].
وهل تشُكُّ - أيها العاقِلُ - أن الحياةَ الدنيا متاعٌ زائِل، ونعيمٌ حائِل؟!
إن كنتَ في غفلةٍ من هذا، فاعتبِر بمن مضَى، ففي ذلك عِبرةٌ لأُولِي النُّهَى.
وإذ قد تبيَّن لك - أيها المُكلَّف - قولُ الله تعالى:
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
[ الأعلى: 16، 17 ].
فاعمَل للآخرة التي تبقَى، واجتهِد لتفوزَ بالنعيم الذي لا يحُولُ ولا يزُولُ،
ولتنجُوَ من نارٍ حرُّها شديد، وقعرُها بعيد، وطعامُ أهلها الزقُّوم،
وشرابُهُم الحميمُ والصَّديد، قال الله تعالى:
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
[ الحج: 19- 22 ].
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
( يُؤتَى بأنعَم أهل الدنيا من أهل النار فيُصبَغُ في النار صبغَةً، ثم يُقال له:
يا ابنَ آدم ! هل رأيتَ خيرًا قط ؟ هل مرَّ بك من نعيمٍ قط ؟
فيقول: لا والله يا ربِّ، ما رأيتُ نعيمًا قط،
ويُؤتَى بأشدِّ الناس بُؤسًا من أهل الجنة، فيُصبَغُ صبغةً في الجنة،
فيُقال له: يا ابنَ آدم! هل رأيتَ بُؤسًا قط ؟ هل مرَّ بك من شدَّةٍ قط ؟
فيقول: لا والله يا ربِّ، ما مرَّ بي بُؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدَّةً قط )
رواه مسلم.
عباد الله:
إنه لا يُنالُ ما عند الله من الخير إلا بطاعتِه، ألا إن سِلعةَ الله غالية،
ألا إن سِلعَةَ الله هي الجنة.
ومُدَّةُ عُمر المُكلَّف هي التجارة التي يُفلِحُ فيها إن وظَّفَها في الخيرات،
أو يشقَى فيها إن ضيَّعَها في اللَّهوِ والمُحرَّمات.
وأولَى الناس بالحياة الطيبة والحياة النافعة المُبارَكة:
من اقتدَى بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياتِه؛
فهديُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أكملُ هديٍ،