السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
زهرة ومنعطف,!
نافذة مكتبها المفتوحة تطل على النيل.. والهواء يحرك ستائرها؛ لتكشف عن زُهرية موضوعة بعناية
على حافة النافذة.. صوت تقلب الهواء عالٍ نسبياً.. ناتج من مروحة متهالكة متدلية من سقف الغرفة.
المكتب كُله على الطراز القديم.. مكتبها مصنوع من خشب الأبنوس.. أمامه كرسيان، وبينهما منضدة.
. وهناك في آخر الغرفة مكتبة مليئة بالأوراق، وفوقها ساعة كبيرة..
تنظر إليها.. إنها الخامسة.. حان موعد الانصراف..
تُرتب أوراقها على المكتب بحرص شديد.. تمسك بزُهريتها بعناية..
وتخرج من مكتبها بخطوات ثابتة نحو بوابة الشركة.
الموظفون بالشركة يرمقونها.. ويتمتمون.. البعض يحسدها على موقعها الوظيفي.. والبعض يتعجب من دقة
روتينها اليومي.. والكثير ينظرون إليها في شفقة.. فقد بلغت اليوم عامها الأربعين.. دون رفيق.
هناك من يتحدث عن حبيب لها فيما مضى.. تركها و رحل.. ولا أحد يعلم لماذا أو إلى أين؟
وخطواتها هي ثابتة نحو الباب.. فقد اعتادت نظراتهم منذ دهر.. خمسة عشر عاما انقضوا على هذا الروتين
.. تصل البوابة، وتبتسم للحارس في هدوء، وتلقى عليه التحية، وتنصرف..
كان لكل من يقابلها في الشارع نصيب من ابتسامتها الدافئة.
تصل إلى منزلها.. وتضع المزهرية بعناية على منضدة، كانت قد اشترتها لها خصيصاً.. تجد على المنضدة علبة مغلفة،
وورقة صغيرة.. هدية من أمها بمناسبة عيد ميلادها.. لا يوجد عندها الفضول الكافي لفتحها؛ فتتركها وتذهب لتأتي بورقة و قلم وتكتب:
حبيبي/
أعلم أني مازلت أراسلك على هذا العنوان القديم، وربما لم تعد تسكن هُناك.. ربما تزوجت ولك أبناء..
ولكني أصبر نفسي، وأوهمها أن إحدى بناتك تحمل اسمي، وأنك لازلت تراها وتتذكرني.. وتبتسم.
أراك في منامي.. فأصحو مشتاقة إليك.. فأراسلك..
أكتب بلا أمل.. أو ملل..
أتذكر آخر لقاء لنا.. كان يوم مولدي..
أتذكر عندما نمت على كتفي.. وبدأت تروي لي قصة.. وقبلتني قبلتنا الأخيرة..
أتذكر شوارع مشيناها في البرد لساعات صامتين.. فقط يدي في يدك..
أتذكر معطفك البني.. رائحتك..
أتذكر يوما نسيته معي.. فنمت أنا أحتضنه.. وعندما صحوت.. ظننته أنت..
أتذكر المقهى وضحكاتنا المسموعة عليه.. التي لم يشكو منها أحد من رواد المقهى..
وأخبرك أنني مازلت أضع نفس العِطر.. وأحمل هديتك لي في كل وقت.. لا أدعها تغيب عن ناظري..
في الشارع..
في البيت..
في العمل..
كنت أحرص أن أحضرها معي..
فأنا أراك بها.. وأحرص ألا تزول رائحتك عني..
ولا تسألني لماذا؟.. فأنا لا أعلم..
وأريد أن أطمئنك.. زميلي في العمل، يأس من محاولاته البائسة معي..
لست أدري في أي منعطف على الطريق أضعتك مني.
. ولكني أعلم أنني لا أريد سواك..
أتذكر عندما سألتك: أتحبني؟
فقلت: "أنا لا أدري ما هو الحب، لكن إذا كان الحب هو أني أريد رؤيتك باستمرار،
وحين أراك لا أرى في دُنياي سواكِ.. فنعم.. إني أحبك".
لحظة يبوح ابن آدم بحبه.. لحظة نقية جداً.. تخرج من القلب..
إذا لم تكن من القلب؛ فلن تصل.. وأؤكد لك أنها وصلتني حينها.. وسكنتني خمسة عشر عام..
ربما لعنتني! فأنا لم أحب ولن أحبك سواك..
وفي الختام..
أرجو.. وإن لم ترد علي مثل ما مضى من خطاباتي.. أن لا تمل من قراءتها..
تطوى الرسالة.. وتضعها في ظرف.. و تضعه بجوار المزُهرية؛ لترسله غداً..
وتدخل حجرتها وتنام ممسكة بمعطف بُني متهالك.