هذي أموالـُكم أيُّها المسلمونَ فادفعوا عنها
الحمدُ للهِ خلقَ الخلقَ, فرفعَ السماءَ, وبسط َالأرضَ بالحقِّ, فقدرَ فيها أقواتها, وقدر في السماءِ الرزقَ, وأصلي وأسلمُ على سيدِ الخلق ِ, وحبيب الحقِّ, ولسان ِالصدق, سَيدِنـَا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعهِ إلى أن يُأذنَ للأرض ِفتنشق .
وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ الواحدُ الأحدُ الحقُّ .
وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولـُهُ وصفيُّهُ من خيرةِ خلقهِ وخليلهُ, القائلُ في الحديثِ الذي يرويهِ الطبرانيُّ أن النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال : ( سيكونُ عليكم أئمة ٌ, يملكونَ أرزاقكُم يُحدِّثونكُم فيكذِبُونكُم ويَعملونَ ويُسيؤونَ العملَ لا يَرضَوْن منكم حتى تـُحسِّنوا قبيحَهُم, وتـُصدقوا كذِبَهُم, فأعطوهُمُ الحقَّ ما رضوا بهِ فإذا تجاوزوا فمن قـُتلَ على ذلكَ فهو شهيد ) .
صلى عليكَ اللهُ يا علمَ الهُدى وإمامَ التقى ما هبَّتِ النسائمُ وما ناحت على الأيكِ الحمائمُ , صلاة ً دائمة ً طيبة ًمباركاً فيها .
وبعدُ أيها المسلمون: لقد حَرِصَ الإسلامُ على الدفاع ِعن الأموال ِِ, تماماً كحرصِهِ في الدفاع ِعن الأعراض ِوجعلَ من يموتُ دفاعاً عن مالهِ وعرضِهِ شهيداً .
فقد رويَ عن أبي هريرة َرضيَ اللهُ تعالى عنهُ أنهُ قال : ( جاءَ رجلٌ إلى رسول ِاللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فقال : يا رسولَ الله ! أرأيتَ إن جاءَ رجلٌ يُريدُ أخذ َمالي ؟!
قال : فلا تـُعطهِ مالك ,
قال: أرأيتَ إن قاتلني؟
قال : قاتله ,
قال : أرأيتَ إن قتلني ؟
قال فأنتَ شهيد
قال : أرأيتَ إن قتلتـُه ؟
قال : هو في النار ) .
وعليهِ إخوة َالإيمان : فلا يجوزُ للمسلم ِأن يُفرِّط َ فيما رزقهُ اللهُ وأعطاهُ, لأنهُ مُستخلـَفٌ فيما يملكُ ومَسؤولٌ عنهُ, ومحاسبٌ عليهِ في الدنيا والآخرةِ . يقولُ نبيُّكُم الأكرمُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : ( إن اللهَ سائلٌ كلَّ راع ٍعمَّا استرعاهُ حفِظ َأم ضيَّع ) .
فإن كانت الأولى وهي لا تكونُ إلاَّ بما وافقَ الكتابَ والسنة َ,
فبها ونعمة .
وإن كانت الثانية َوهي لا تكونُ إلاَّ مغايرة ً للكتاب والسُّنـَّةِ, فقد أضاع َصاحِبُها نفسَهُ وأورَدَها مهالكَ الردى . لقولِهِ عليهِ السلامُ : ( مِـن أسوءِ الناس ِمنزلة ًمَن أذهبَ آخرتـَهُ بدنيا غيرِهِ ) .
فكيفَ بمن فرَّط َبما لا يملكُ وضيَّع ؟! ورسولُ اللهِ صلواتُ ربي وسلامُهُ عليهِ يقول : ( لا يَحلُّ مالُ امرىءٍ مسلم ٍإلاَّ عن طيبِ نفس ٍمنه ) .
إخوة َالإيمان : ها أنتم وقد حُمِّـلتم أمانة َأنفسِكُم فأعتقتمُوها بإذن ِربِّها من النار, ورَعَيتم أبناءَكُم وأزواجَكُم ومَن تعُولونَ بما استـُحفظتـُم من كتابِ اللهِ ما استطعتم , فأمرتمُوهم بالمعروفِ ونهيتموهُم عن ِالمنكرِ, مُتمثلينَ قولَ ربِّكم جلَّ وعلا : ( يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنوا قـُوا أَنفـُسَكُم وأهلِيكُم ناراً وَقـُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَة ُعَليهَا مَلائِكة ٌغِلاظ ٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم , وَيَفعَلونَ مَا يُؤمَرُونَ{6} ) التحريم .
وها أنتمُ اليومَ وقد علمتم ما أوجبَ لكم ربُّكُم من حَقٍّ أكرَمَكم بهِ ,
وأنعمَ عليكُم وتفضَّـل ,
فقعَدتم عنهُ ليعبثَ بهِ حكامٌ لكم ,
وولاة ٌعليكم ,
عَشِقوا الخيانة َ,
وضَيَّعوا الأمانة َ,
واستمرؤوا الذلَّ بسكوتكُم عنهم ,
وصدقَ رسولُ اللهِ صلوات اللهِ عليهِ وسلمَ إذ يقول : ( مِـن أخون ِالخيانةِ تجارة ُ الواليْ في رعيتهِ ) .
فهذي أرضُكُمُ التي حَباها ربُّكم بخيرٍ لا يَمتنعُ,
ورزق ٍلا يَنقطع,
رَوَّاهَا السابقونَ بدمائِهم ,
وقدَّموا فلـْذاتِ أكبادِهم,
فأسلمَها أراذلُ حكامِكُم,
لألدِّ أعداءِ اللهِ وأعدائِكُم,
يَستبيحونَ خيراتِـها,
ويَسلـُبُونَ ثرْواتها,
ويَنهبُونَ مُقدراتها,
يَستملكونَ ما أقلَّ ظاهِرُها,
وحوى باطِنـُها,
حتى غدت وكأنهم أصحابُها !!
أنتم غرباءُ عنها, وهم أربابُها !!.
فهذي أموالكُم أيُّها المسلمونَ فادفعوا عنها من اغتصَبَها كما تدفعونَ من تـُسوِّلُ لهُ نفسُهُ العبثَ بأعراضِكم,
فمن فرَّط َبأحدِهما فهو لغيرها أضيع . فمن يهنْ يسهل ِالهوانُ عليه .
وصدقَ اللهُ العليُّ العظيم : ( تلكَ الدَّارُ الآخِرَة ُنجعَلـُهَا للذينَ لا يُريدُونَ عُـلواً في الأَرض ِ ولا فسَاداً والعَاقِبة ُللمُتقينَ {83}) القصص .
إخوتي في اللهِ , أحبتي في الله : أوَ لم تسمعوا قولَ نبيِّكُم الأكرمُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : ( المسلمونَ شركاءُ في ثلاث : الماءُ والكلأ ُوالنار ) .
فهم واللهِ ليسوا أحراراً فيما يَستبيحونَ , بل مُؤتـَمَنونَ , ولكنهم مُضيِّعونَ ومُفرِّطونَ, خائنونَ للهِ ولرسولِهِ وللمؤمنينَ, وصدقَ فيهم رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذ يقول : (مَا من عبدٍ يسترعيهِ اللهُ رعية ً، يموتُ يومَ يموتُ وهوَ غاشٌ لرعيتهِ، إلاَّ حَرَّمَ اللهُ عليهِ الجنة َ)
أيها الإخوة ُالأكارم : لمَّا حضرتْ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ الوفاة ُ, قيلَ لهُ : ماذا أبقيتَ لأولادكَ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال رضيَ اللهُ تعالى عنهُ وأرضاهُ : إن كانوا صالحينَ فاللهُ يتولى الصالحينَ, وإن كانوا غيرَ ذلكَ فواللهِ لو أبقيتُ لهم مالَ قارونَ ما أغنى عنهم من اللهِ شيئاً .
أيها الإخوة ُالأفاضل : هؤلاءِ همُ الرجالُ الرجال ,
ما سَعَوْا لأجل ِدنيا زائلةٍ
ولا أهمَّهُم زخرفٌ فان ٍ,
ولا بريقُ مال ٍ.
خرجوا من الدنيا, مُأمِّلينَ لقاءَ ربِّهم
فلا لهم ولا عليهم .
تنافسوا في الآخرةِ,
وصَدَقوا اللهَ فصَدَقهم .
ألا فلتعلموا عبادَ اللهِ يرحمني وإياكمُ اللهُ : أن التوفيرَ الحقيقيَّ كائنٌ في ادخارِ الخيراتِ, ليوم ٍ ترجونَ فيهِ النجاة َلقولهِ تعالى : ( يَومَ لا يَنفعُ مَالٌ ولا بَنونَ{88} إِلاِّ مَن أَتى اللهَ بقلبٍ سَليم ٍ{89}) الشعراء.
ولقول ِالرسول ِالأكرم صلواتُ ربي وسلامه عليه : ( ما من أميرٍ يلي أمرَ المسلمينَ ثمَّ لا يَجهدُ لهم وينصحُ, إلاَّ لم يدخلْ مَعَهُمُ الجنة َ) .
وقد رويَ أن أبا جعفرٍ المنصورِ لما حجَّ طلبَ سفيانَ الثوريَ فجاءَهُ، فقالَ لهُ سفيانُ: كم أنفقتَ في سفركَ هذا ؟ قال: لا أدري، ليَ أمناءٌ ووكلاء . فقالَ سفيانُ فما عُذرُكَ غداً إذا وقفتَ بينَ يدي ِاللهَ تعالى !!!؟ فسألكَ عن ذلك ؟ ثمَّ تابعَ سفيانُ قولـَهُ: لكنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ ، لما رجعَ ــ من الحجِّ ــ قالَ لغلامهِ : كم أنفقنا في سفرِنا هذا ؟ قالَ: ثمانية َعَشـَرَ ديناراً، فقالَ عمرُ: ويحكَ !! أجْحَفنا بيتَ مال ِ المسلمينَ . ثم أردفَ سفيانُ قائلا : روى ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال : ( رُبَّ مُتخوص ٍفي مال ِاللهِ ومال ِ رسولِهِ فيما شاءت نفسُهُ لهُ النارُ غداً ) فيقولُ أحدُ متزلفي ِالحاشيةِ : أميرُ المؤمنينَ يُستقبلُ بهذا؟
فأجابهُ سفيانُ : اسكت، إنما أهلكَ فرعونَ هامانُ .
أما حكامُ الضرارِ في بلادِ المسلمينَ اليومَ فقد هانت عليهم أموالكُم , فما رعوها حقَّ رعايتها , ضَنـُّوا بها عليكم فقتـَّرُوا وقصَّرُوا ثم بسطوا أكفـَّهُم سَخية ًتجودُ بما تطولُ, وتنفقُ بغيرِ حسابٍ رضاءً لعدوكُم , وتضييعاً لأموالكم , فهم لا يتقون الله فيكم إذ يُحسنونَ لعدوِّكم , ويُسيؤونَ إليكم .
فحكامُ الحجازِ ومن ماثلـَهُم من أمراءِ النِفطِ ضيَّعوا خيراتِكم , وخانوا أماناتِكم .
فهذي أموالكُم أيُّها المسلمونَ , فادفعوا عنها ممن ِاغتصَبَها كما تدفعونَ مَن تسَوِّلُ لهُ نفسُهُ العَبَثَ بأعراضِكم , فمن فرَّط َ بأحدهما فهوَ لغيرِها أضيع !!! .
فقوموا فاعملوا مع العاملينَ المخلصينَ الذينَ يَغذونَ السيرَ لإقامةِ دولةِ الحقِّ دولةِ الخلافةِ .
وعلى رأسِها خليفة ٌيحثو المالَ حثياً ولا يَعُدُّهُ عدَّاً .
فاجعل ِاللهمَّ ذلكَ اليومَ قريباً, إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب .
عباد اللهِ ارفعوا إلى السماء أكفـَّكُم وأخرجوا حبَّ الدنيا من نفوسكم , واربـِطوا بربِّ العبادِ قلوبَكُم , واصدُقوا اللهَ دعاءَكُم .
فالساعة ُساعة َإجابةٍ فأمنوا من بعدي .
اللهمَّ من رفقَ بالمسلمينَ فارفق به , ومن شـَقَّ عليهم فاشقق عليه .
اللهمَّ ولِّ أمورَنا خيارَنا , ولا تولها شرارَنا .
اللهمَّ من أرادَ بالإسلام ِوالمسلمينَ خيراً فوفقهُ وأعنهُ وسدِّد خـُطاه .
ومن أرادَ بهم شراً فخذهُ وأهلكهُ أخذ َعزيزٍ مُقتدرٍ, فإنهُ لا يعجزكَ ربِّي , ربَّ العالمين .
ـــــــــــــــــــــــ
خطبة ألقيت بأحد مساجد ضواحي بيت المقدس
بارك الله فيكم
وجعلها في ميزان حسناتكم
والسلام
العرض العادي
