ثقافة التسامح.
فى مطلع القرن العشرين أطلق الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار مقولته الشهيرة( نتعاون فيما إتفقنا فيه وليعذر بعضنا بعضا فيما إختلفنا فيه ) فكانت قاعدة ذهبية أرست مبادىء الحوار مع الأخر ورسخت مفهوم التسامح والتعاون وسعة الأفق, وتبنى الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله هذه القاعدة فأسس حركة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية فى العصر الحديث و التى بفضل مرونتها وسعتها وتسامحها إستطاعت أن تشق طريقها وتمتد فى أكثر من سبعين قطر من أقطار العالم , وإتبع نفس النهج الكثير من العلماء والمصلحين- اعنى نهج الوسطية والتسامح والإنفتاح على الأخر- أمثال الشيخ الغزالى والعلامة الدكتور القرضاوى والشيخ الندوى والشيخ على الطنطاوى والأستاذ نجم الدين أربكان( الخوجة ) والذى يعد الأب الروحى للحركة الإسلامية فى تركيا العلمانية وكثير غيرهم فعاشت افكارهم و اثمرت وأنبتت نباتا حسنا.
والقرآن الكريم ملىء بالمشاهد الحوارية مع الأخر, قال تعالى (إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) وحوارسيدنا إبراهيم مع النمرود, وقوله تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وتاريخنا الإسلامى المجيد زاخر بمعانى التسامح وإحترام حقوق الأقليات والحوار البناء وقبول الراى الأخر والأسلوب الراقى فى الخلاف, والأدب الجم عند الإختلاف فتجد الحب والتقدير بين أئمة وعلماء السلف رغم إختلافهم فى بعض الأراء والإجتهادات وكانت قاعدتهم فى ذلك( رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب)والأمثلة كثيرة لا يتسع لها المقام .
وعلى الجانب الأخر لانستطيع أن نغفل مظاهر التعصب والتطرف والعنف التى تتفشى فى عالمنا العربى والإسلامى على المستوى الفكرى والسياسى والدينى والإجتماعى والتى كانت نتيجة طبيعية لسياسة القمع والكبت والإضطهاد وإحدى إفرازات شيوع ثقافة الإستبداد ,فالفكر المتعصب المتطرف العنيف ينمو ويترعرع فى ظروف بيئية وتاريخية مشابهة فالإنسان إبن بيئته وفاقد الشىء لا يعطيه والأجواء الخانقة التى تفتقر إلى حرية التعبير والحوارالهادىء والنقاش والتسامح تثمر أفكار شاذة وممارسات منحرفة والعنف هو وليد العنف ( من يزرع شوكا لايجنى عنبا ) ولست بصدد تبرير العنف فالتطرف والعنف والقتل والتفجير مرفوض دينا وشرعا وهو بعيد عن روح الإسلام الوسطى الحنيف الذى يعظم حرمة الدماء ويعلي من قيمة النفس البشرية( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) ولكن ماأعنيه هو دراسة و مكافحة الأسباب البيئية والظروف والملابسات التى تساعد على ظهور هذه الممارسات .
فقد ظهر فكر التكفير والهجرة في مصر و إنتتشر بين شباب الجامعات فى فترة السبعينيات من القرن المنصرم نتيجة القتل و السجن والتشريد والتعذيب الرهيب الذى تقشعر من هوله الأبدان والذى طال أبناء التيار الإسلامى المعتدل من العلماء والمثقفين والمصلحين فى فترة حكم الرئيس عبد الناصر, فكان نتيجة تغييب العلماء فى السجون وهروب البعض الأخر خارج مصر ظهور هذه الأفكار الغريبة والممارسات المتطرفة وكان الحصاد المر من العنف والتطرف والذى لايمكن علاجه إلا فى أجواء من التسامح والحوار والحرية. وتعيش الجزائر دوامة من العنف الذى لم ينتهى حتى الأن ونزيف الدم الذى لم يتوقف حتى هذه اللحظة والذى حصد أكثر من مائة ألف قتيل وذلك نتيجة قمع العسكر وتدخل جنرالات الجيش بالقوة وإلغاء إنتخابات 26 ديسمبر 1991 والتى فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأكثر من 70% وما تلى ذلك من إعتقالات واسعة النطاق لقيادات وكوادر الجبهة, وفى كثير من الدول الإسلامية تنتشر ظاهرة الغلو والتسرع فى التكفير بالجملة ولولأدنى شبهة وذلك بسبب الإنغلاق وغياب ثقافة التسامح والحوار والإنفتاح على الأخر.أيضا ما حدث فى نيروبى ودار السلام وفى 11 سبتمبر من تفجير وقتل كان نتيجة سياسة الظلم البين والإجحاف الذى تمارسه الإدارات الأمريكية المتصهينة ضد منطقتنا العربية والإسلامية وفى وجود عجز عربى وإسلامى وفى ظل أنظمة مستبدة لاتلبى طموحات شعوبها ولا تفتح المجال للحوار والإصلاح ولا تعرف إلا لغة القمع والإعتقالات ولا تتفق ولا تجتمع ولاتتوحدعلى شىء إلافقط فيما يتعلق بالتنسيق الأمنى القمعى.
إن عالمنا العربى والإسلامى مازال يفتقر كثيرا إلى ثقافة التسامح والحوارالحضارى والإنفتاح على الأخر التى هى أساس التعايش والحضارة والتقدم, ولا يعيبنا أن نعترف أن الغرب سبقنا بمراحل فى هذا المجال فقد إستطاعت أوروبا أن تتحد و تتوحد وتستوعب 25 دولة فى الإتحاد الأوروبى حتى الأن رغم إختلاف اللغة والجنس والتاريخ وتباين المذاهب الدينية والسياسية والفكرية وتنوع العادات والتقاليد, مستفيدة من التجربة الأمريكية حيث يعيش على التراب الأمريكى كل أجناس وأعراق وطوائف ولغات الأرض فى جو من الحرية والتسامح, والكل له كامل الحرية فى ممارسة شعائره وطقوسه وعاداته وتقاليده, وهذا إنجاز ضخم لايعيبنا أن نقر ونعترف به ولا ينقص من قدرنا أن نشيد به ونستفيد منه لأننا بالفعل كان لنا السبق فيه فى أيام إزدهار الحضارة الإسلامية .
بينما مازلنا نحن نعانى حتى الآن من التعصب وغياب التسامح والحوار على المستوى السياسي والدينى والمذهبى والإجتماعى , فالشيعة فى بعض الدول يعانون من التمييز الوظيفى و إنتقاص الحقوق,وكذلك لاتحصل الأقلية السنية فى إيران على كامل حقوقها.ومازالت هناك خلافات بين الجماعات والحركات الإسلامية ببعضها البعض تصل إلى حد السب والقذف بل أحيانا إلي مناصبة العداء والإتهام بالكفر .أما على الصعيد السياسى فما زالت السلطة فى أيدى أناس لايؤمنون بمبدأ تداول السلطة ولا بالتعددية السياسية ولا الحوار ولا التسامح, و لا يسمحون أبدا أن تنتقل من أيديهم السلطة مهما كلفهم الأمر ومهما كان الثمن وبأى وسيلة حتى وإن كانت البطش والقمع.وأما على المستوى الإجتماعى فتدب الخلافات وتقطع الأرحام لأتفه الأسباب وقلما تجد سماحة فى بيع أو شراء أو إقتضاء.
علينا أن نشيع ثقافة التسامح والحوار في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وإعلامنا ونربى أولادنا على الحوار وأدب الخلاف والتسامح,وان نوفر المناخ الملائم لحوار إسلامى قومى, وحوار سنى شيعى, وحوار إسلامى مسيحى,وحوار إسلامى غربى , وبشيوع ثقافة التسامح والحوار سنجد الكثير من نقاط الإلتقاء والإتفاق التى نستطيع أن نبنى عليها وقليل من نقاط الإختلاف التى نستطيع أن نتحاور فيها ونتفهمها ونتعايش معها, فلنتعاون فيما إتفقنا فيه ولنتحاور فيما إختلفنا فيه.
العرض العادي
