ذكريات والدي مليئة بالقصص العجيبة، فأنا أذكر في هذه العجالة بعض ذكرياته المتعلقة ببعض قصائده التي كتبها قديمًا، وجعلتها في أربع عشرة حلقة، مع التنبيه أن هذه الذكريات حقيقية ليست من نسج خيال، والحلقات الست الأول لم أعرفها من والدي إلا هذه الأيام:
الحلقة الأولى:
قال والدي: ولدتُ في الرياض، وفي صغري وقعت في شباك العشق، كان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز العاشرة، فأحببت أن أكتب الشعر تعبيرًا عما أعاني من العشق، فاشتريت كتاب الشاعر الكبير أحمد شوقي، وحاولت أن أقلده في كتابة الشعر، وكتبت أشعارًا كثيرة، كلها باللغة الفصحى، لكني لا أذكر منها شيئًا.
من المواقف التي لم أنسها أنه بعد سنوات قليلة من ممارستي لكتابة الشعر جاءني أخي الأكبر، وكان يحب سماع الأغاني باللهجة العامية، فذكر لي أبياتًا من تلك الأغاني، وقال لي أتستطيع أن تأتي بشعر مثل هذا؟
فقلت له في الوقت نفسه أبياتًا باللهجة العامية، أول مرة في حياتي أقول أبياتًا باللهجة العامية، قلت فيها:
أنا لبكيت.....ما أدري*****وين تروح.... يا دموعي
ظلام الليل على صدري*****حروق الشمس بضلوعي
ألا يا طاب لك هجري*****أعيش اليوم......اسبوعِ
يطول الليل قبل يسري*****وصبحي....ظلمه لوعي
الحلقة الثانية:
كنت نائمًا، ثم استيقظت، وكان أخي الأكبر يمسك دفتر أشعاري ويتكلم مع والدتي وإحدى أخواتي، ولم أُشْعِرهم باستيقاظي، فقال أخي: هذا طفل شغل نفسه بأشعار العشق، يوهم نفسه بأنه عاشق، ثم ضحك، وضحكت أمي وأختي.
فتألم قلبي، ودمعت عيني، أنا معذب بالعشق، ولا أحد يشعر بما أشعر به، فقلت في هذه اللحظات أبيات باللهجة العامية، قلت فيها:
قالوا...قلبك يا حيف بالحب جنين*****ما بعد حان وقته.......ولا صارِ
قلت....يا قلبي....متى الحب يجين*****قال قلبي ترى الحب بالعرق جاري
قلت...الويل يا قلبي من حب دفين*****وعذابٍ........ما به أحد داري
أثاري الحب بالقلب...عايش سنين*****وفراق الزين....شاعل القلب نارِ
هقيت الزمان........للجرح يعفين*****واني صبرت ما لقيت للجرح باري
ذكراك يا زين عن وصلك ما يغنين*****وحبي لك...بوادي الشوق ساري
ألا........قلبي بك......الله يعين*****سلمتك...اليوم..لمصرف أقداري
الحلقة الثالثة:
لما بلغت العشرين من عمري، سألت نفسي: إلى متى أعيش هكذا؟
أحب فتاة وهي لا تعلم بحبي لها، لا أستطيع أن أصارحها لأني خجول، وأخشى أن تنفر مني لأنها متزنة.
اشغل وقتي بالتفكير وكتابة الأشعار، ما الشيء الذي أريد الوصول إليه؟
أجبت نفسي بنفسي: أريد الزواج بهذه الفتاة.
الطريق إلى ذلك هي خطبتها.
لكن لا أظن أن أهلها سيوافقون علي؛ لأنه ليس لدي مال يكون مهرًا لها، وليست لي وظيفة اكتسب بها؛ لكي أنفق عليها، فقد تركت الدراسة، ولم أتوظف، وأضعت عشرة سنين من عمري بالتأوه وكتابة الأشعار.
ثم خطر في بالي شيء، أنا أجيد الشعر، فلماذا لا أكتب أشعارًا غنائية، ثم تُغَنَّى، فأحصل بذلك على المال والشهرة، فتخيلت في تلك اللحظة أني سأصل إلى قمة السعادة.
فابتدأت بكتابة قصيدتين:
القصيدة الأولى عنوانها: تلاقينا.
مطلعها:
تلاقينا...قبل ترحل*****وصمتي زاد في الحِيرة
وقبل ابدأ أنا واسأل*****قالت...ما لنا خِيرة
القصيدة الثانية عنوانها: يا ليل يا ليلاه:
مطلعها:
يا ليل يا ليلاه*****عاشق أيا ويلاه
وكنت حينما أغني هذه القصيدة مع نفسي أحب أكرر هذين البيتين:
يا..غاية..أشواقي*****يا حِلمي...والآمال
غيرك ما ني لاقي*****وحدك شغلت البال
الحلقة الرابعة:
لما رأيت أن المحاولة نجحت في كتابة قصيدتين غنائيتين تشجعت وكتبت قصائد غنائية كثيرة، لكن لا أذكر منها إلا قصيدتين:
القصيدة الأولى عنوانها: اعذريني:
مطلعها:
اعذريني*****من لهف شوقي وحنيني
وكنت حينما أغني هذه القصيدة مع نفسي أتأثر عندما أصل إلى هذين البيتين:
يا قمر..مظلم غيابه*****غاب واشغلني بعذابه
كلما....لاقي سرابه*****يختفي من بين يديني
القصيدة الثانية عنوانها: الأمل كلمة:
هذه قصيدة طويلة باللهجة المصرية، كتبتها متأثرًا بأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
مطلعها:
كلمة ... لو أُلتهالك ... حرتاح من العزاب
كلمة ... لو أُلتهالي ... حنسى أيام العزاب
كلمة ... الأمل كلمة ... فيها العمر داب
وكنت حينما أغني هذه القصيدة مع نفسي أحب أكرر هذين البيتين وأنا أبكي:
صعبان عليَّ بُعْدَك*****أنساك..وتنساني
يصعب عليَّ بَعْدَك*****أحب غيرك تاني
وكنت أشعر بالفرح والتفاؤل حينما أصل إلى الأبيات الأخيرة:
مستنيك....تبعتلي قواب*****تُؤلي فيه.....الشوق غلاَّب
حفرح اكتر.......لما فيها*****كلمة أحبك مكتوب عليها
أُلها.....حبيبي...... أُول*****دنا والله زمان.....مستنيها
الحلقة الخامسة:
لما انتهيت من كتابة القصائد الغنائية، تحدثت مع نفسي، وقلت: الأغاني حرام، فهل سأحقق السعادة عن طريق الحرام؟ لا أظن ذلك.
قلت هذا وأنا في ذلك الوقت لا أكاد أصلي، لكني جزمت على ترك هذه الطريقة؛ لأنها لن توصلني للسعادة، وقلت: لعل الله أن يعوضني خيرًا.
ثم بلغني الخبر أن عشيقتي خُطِبت، وخالجني شعور أن طريقي خطأ، كيف اجعل أكبر همي هو عشق فتاة؟ كيف أضيع عشر سنين من عمري في التفكير بها؟ وكتابة الأشعار فيها؟ ثم في لحظة تكون من نصيب غيري؟!.
قررت أن أهجر كتابة الشعر بقصيدة طويلة عنوانها: شهيد الحب.
مطلعها:
راوي الأشجان
اروِ عني قصة ...تناثرت أحداثها بين صفحات الزمان
أيام تمر... وشهور تليها...الثواني تمضي كالدهر أعيش فيها
راوي الأشجان
قصتي من سيرويها؟
الحلقة السادسة:
بعد أن يئست من الزواج بعشيقتي، صرت أفكر بجدية، ما الذي أريده من الدنيا؟ ما الذي أسعى إلى تحقيقه؟ ما الشيء الذي يستحق أن أفكر فيه واهتم به؟
فأجبت نفسي بنفسي: أريد السعادة، لكن لا أدري ما هي السعادة؟ ولا أدري كيف الحصول على السعادة؟
شعرت في ذلك الوقت أني أريد البكاء، وبينما كنت كذلك زارني صديق لي كان أكثر مني غفلةً وارتكابًا للمعاصي، زارني وقد هداه الله تعالى للاستقامة على الدين، شعرت أنه في سعادة حقيقية، لا السعادة الوهمية التي كنا نعيشها سويًا باللهو والطرب وارتكاب المعاصي وتتبع الشهوات.
قلت له: أشعر أني أريد أن أبكي، أريد أن أحضر خطبة جمعة تبكيني.
فقال لي: سأمر عليك يوم الجمعة، ونذهب سويًا إلى منفوحة حيث يخطب الشيخ عبد الله بن حماد الرسي، فمر بي وذهبنا، وكانت الخطبة عن اليوم المزيد، وهو اليوم الذي يكلم الله تعالى أهل الجنة، بعد هذه الخطبة شعرت أخيرًا أني فهمت الحياة، وقلت حينها:
كنت أتمنى أن أعيش سعيدًا
.......لا أدري كيف؟ ولكن كنت أتمنى ذلك
من أجل هذا سلكت كثيرًا من الطرق
.......التمس السعادة, حتى تشعبت في حياتي المسالك
وأخيرا تيقنت أن السعادة في الجنة
.......لابد أن أعمل لها، وإن لم أعمل فلا ريب أني في النار هالك
يتبع