نحن نعيش في مجتمع يرفض مسألة المغالاة في الحزن , وقد يكون بوسعك الشعور بالحزن دون أن يتملكك الأسى , أو قد تعجز عن التحكم في مشاعرك , حدث أن التقيت بشخص مات أخوه أثناء تزلجه على الجليد , وكان الأخوان يعملان معاً في نفس المؤسسة , وقد اخبرني انه تلقى مزيدًا من المواساة في صورة بطاقات تعزية , وباقات ورد , في أول يومين من الحادث.
وعندما عاد إلى العمل فور انتهاء الإجازة , اختفت فجأة كل مشاعر الحنو والشفقة , وبدا أن زملاءه في العمل لا يودون التحدث بشأن ما مضى , وظهر إن هناك نية لتعيين شخص آخر في وظيفة أخيه المتوفى , لقد كان هناك ما يشبه المؤامرة للإقناع بأن كل شيء يبدو على ما يرام .
وبدا إن الجميع يحاولون أن يقولوا لـــه : " حان الوقت لأن نواصل حياتنا , فهيا نعود إلى أعمالنا " لكن لم ينطق بذلك أحد , وهذا ما جعل الأمر محيراً ومؤلماً. ولوصف هذا السلوك الصامت , أود تناوله من زاوية أخرى , فيمكنني قول إن ما أراد هؤلاء الأشخاص قوله لهذا الرجل : " لتدفن أحزانك , ولا تفكر فيها بعد الآن لتهرب منها وسوف تزول عنك " .
وهناك أمثلة كثيرة في حياتنا على انه قد يكون لدى الفرد أو الجماعات نيات طيبة , ينتج عنها آثار سلبية وغير مقصودة , فعلى سبيل المثال , قد لا يكون لدى من يذكرك بماضيك البسيط وحياتك الفقيرة أية نية سيئة سوى أن يشيد بكفاحك وعصاميتك , لا أن يسيء إليك .
وربما يكون التعامل مع الحزن أحد الأمور التي ينتج عنها تبعات غير مقصودة , فكون المرء لا يرتاح إلى فكرة الموت وفقدان من يحب يجعل من العسير علية مواساة صديق له في أحزانه, بصرف النظر عن مدى رغبته في ذلك , ولهذا قد تسبب كلماتك أو أفعالك الضرر اكثر مما قد تنفع , وسوف يظهر دون شك – شعورك بعدم الارتياح , فقد تقول مثلا ً _ في أسوأ اللحظات : " سيصبح كل شيء على ما يرام " أو ربما تحاول أن تفكر بعقلك بدلاً من قلبك في هذه الخسارة الفادحة , كأن تقول : " لقد انقضى اجله فحسب ! " فبالرغم من حسن نيتك , قد تكون كلماتك كالملح على الجرح .
وسيشرع شيئان في الحدوث حالما نصبح اكثر معرفة , وإدراكاً وتقبلاً لمشاعر الحزن , حيث يعمنا شعور بالارتياح والطمأنينة تجاه ذلك , وبالتالي يصبح بوسعك " مواساة " الآخرين في أحزانهم , بل " مواساة نفسك – أيضاً عندما يتعلق الأمر بك أنت " , وما من شك في إن كل شخص منا سيمر بتجارب مؤلمة , وسيتعين علينا في بعض الأحيان مساندة الآخرين في أحزانهم, ولذلك من المفيد أن تعد نفسك – قدر المستطاع – لهذا الأمر الحتمي .
عندما تفتح قلبك لتقبل مشاعر الحزن سيتسنى لك مساعدة الآخرين فضلاً عن مساعدتك لنفسك, وخلال هذه المسألة , ستخطو إلى عالم من الثراء والرضا الداخليين , والذي يستحيل الولوج إلية دون هذا الإعداد.
وما تعلمته في حياتي الشخصية إن الحزن الذي يسفر عن الشعور بالارتياح يوجد حينما أتحرك – بدلاً من الهروب بعيدا ً أو كبت مشاعري أو التظاهر بذلك – في الاتجاه المضاد , فبدلا ً من أن نهرب بعيدا ً عن مشاعر الحزن التي تنتابنا , فان من الأفضل أن نختبر طبيعة هذه المشاعر باهتمام حقيقي , كأن نسأل أنفسنا : " كيف يبدو هذا الحزن ؟ وهل يتسم بالاستقرار؟ أو أنة ذو طبيعة متغيرة ؟ وبتفكيرنا في طبيعة حزننا – بهدوء وتريث – يصبح بوسعنا مصادقته , بل قد نطور معه علاقة يمكن من خلالها معالجته .
لن تذوي حاجتنا للشعور بالحزن لمجرد أننا ابتعدنا عنة أو تحركنا في الاتجاه المضاد , وليس بإمكانك إنكار وجود الحزن , فقد حان الوقت لأن تنشغل في أعمالك , إن دفن شيء ما , لا يسفر إلا عن ترسيخ هذا الشيء في الأرض , ولن يؤدي دفنك الحزن إلا إلى تثبيت جذوره , جاعلاً ً التعامل معه أمراً عسيراً , والهروب من الحزن يجعله عدوا ً لنا حيث يحملنا ذلك على النظر إلية بعين المقت والغضب , وهذا بدورة يؤدي إلى أن تزداد الأمور سوءا ً , وهكذا تظل في حلقة مفرغة .
والحزن مسالة طبيعية تبعد كثيرا ً عن مجرد كونها نتيجة للموت , ونحن نعيش في عالم يتسم بالتغيير المستمر , إذ لا شيء يظل على حالة فكل تجربة لها نهاية , وكذلك كل فكره , وكل إنجاز سيؤول إلى نهاية , وكذلك كل علاقة , وربما يكون من الطبيعي أن نحاول التعلق بذكرى الأشياء أو الأشخاص , أو التجارب التي نحبها .
وبوسع البعض منا التشبث بهذه الأشياء لفترة طويلة , وقد نكون " من القوة " بحيث نستطيع إقصاء الألم بعيدا ً عنا , فقد يموت شخص ويصير ذلك الحزن فينا , ولكننا نواصل الحياة , وتأتي الخسارة اثر الخسارة ونحن تحتفظ بهدوئنا ونكبت مشاعر الحزن فينا , وهكذا تستمر الحياة بطريقة أو بأخرى .
لكن عند نقطة ما – وهي تختلف من شخص لاخر - نكون قد شهدنا الكثير من هذه التجارب المؤلمة , نقنع أن الموت ناموس من نواميس الحياة , وفي رأيي إن ذلك هو الخطوة الأولى نحو الشفاء .
ولا بد لنا من الإقرار بوجود التجارب المؤلمة في حياتنا , حتى يتسنى لنا الشعور بالشفاء الحقيقي , ولست اقصد بذلك أن تخضع لجلسة رثاء مع صديق أو أحد الناصحين لك بقدر ما اقصد التأمل في طبيعة ما يتعين عليك الحزن لأجله .
إذا اعترتك الهموم والأحزان , فمن الضروري أن تستشعر الحزن كما يحلو لك , أما إذا لم تكن كذلك فلا تدع هذا يثبط من همتك في أن تألف هذا الأمر , وقد يكون بإمكانك - نتيجة هذا الاستعداد الداخلي – أن ترتبط بأحزانك بمحبة وقبول , بدلا ً من القسوة والامتعاض .
وقد يكون من دواعي السخرية أن يصبح الحل في اكتشافنا طبيعة أحزاننا بدلا من الهروب منها , ولكن ما تعلمته من تجارب الحياة , إنني كلما كنت مستعدا ً ( للبحث ) في آلامي , تسنى لي الشعور بالارتياح والتعامل معها .
عندما تنتابك مشاعر الألم والغضب , والحزن , فلتحاول التعامل معها على أساس من الحب والرحمة , بدلا ً من الكره والاشمئزاز , وان تجاهلك لتلك المشاعر , أو كرهها , أو حتى تمني زوالها لن يسبب إلا مزيدا ً من الألم .
تكلمت ذات مرة إلى رجل عصفت به آلام شديدة القسوة , لكنه ظل بكبتها بداخلة , جاعلا زمام الأمر في يديه , و أخيراً وجد العون الذي كان ينشده في جماعة من الأشخاص , وفي غضون ساعات قلائل اخذ قلبه المثقل بالأحزان في الشعور بالارتياح , وقد أدرك انه لم تكن لدية أدنى فكره عن القسوة التي تعامل بها مع نفسه , ووضع الحب – الذي حل محل هذه القسوة – قدميه على طريق الشفاء .
إذا ثقلت عليك الحياة بالآلام فلتبحث عن شخص يساعدك , وربما تجد العون في جماعة من الأشخاص يمرون بآلام مماثلة , أو قد يكون صديقا ً أميناً أو ناصحاً مخلصاً لك , كل ما أريد أن تعرفه انك لست وحدك في أحزانك , وأنة لا بأس – إذا لم يكن من الأفضل _ أن تطلق العنان لهذه المشاعر , وليباركك الله . اختكم الاخلاص
__________________________________________________ ______________